رثاء الممالك…. ” لا أفهم لماذا يصّر الماضي على أن يكون هو المستقبل؟ ”
طلب من أحد الصحفين (لم أعد أذكر اسمه ) شهادة عن الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 . أعطيته بضعة أوراق، وجدتها بين مسودات كثيرة، ولا أعرف إن كانت قد نشرت. كل ما أذكره أنني كنت مزقاً في الاستجابة لمثل هذه الشهادات في تلك الظروف، وتلك الأيام … الشهادات التي نوقع أنفسنا في عبثيتها !
” العرب ” ليسوا في مرحلة الاستقرار بل التخييم في العصر.
و ” العرب ” ليسوا في مرحلة البناء الحديث بل في مرحلة تجريب الأشكال المتعددة للخراب .
وهم ليسوا في مرحلة إنتاج المفاهيم والتفكير، بل هم ما زالوا يعدّون النجوم … ولكن على أكتاف أبنائهم الذاهبين عبثاً إلى الكليات العسكرية . إنهم في مرحلة الصناعة البدائية لفريق الأعداء والأصدقاء، لذلك نراهم في البازار أكثر مما نراهم في المكتبة. فهناك الشطارة … وهنا إزالة القشور البدائية عن المخ .
المثقفون العرب كان ينبغي أن يكونوا أجداد الحكّام . آباءهم شيوخ عقل تفكيرهم، شركاء التأمّل في المسودات حصن القادة في ميدان الواقع لحماية الصواب أقرباء، لا جيران، القرارات الصعبة . ولكن تمت الصفقة وأصبحت الثقافة من أجل تزيين خطاب الحاكم، وتزوير الحقيقة، والبحث عن سماءٍ لتحليق الخيال .
ليس المثقف أشدّ ألماً لأنه ” حساس ” أمام المشهد الدامي للحرب. بل أولئك الذين يفقدون أعزائهم في ركام القصف وهو لا يعرف كيف يفسّر ما يجري أكثر من شعوب وأفراد اختزنت في ذاكرتها سيرورة الاستعمار والاحتلال والاضطهاد المحلي وذوي القربى .
المثقف أكثر الناس عجزاً عن التأثير تحت النيران حيث يكون الإطفائي بطلاً والسلاح أشرف من الفضائل ، والصبر أمثولة.
وهو، إلى ذلك، سيفكك وجدانه إلى أجزاء. واحد يقف ضد الحرب وآخر ضد السلام، وثالث ضد الحكومة، ورابع ضد القائد التاريخي، وخامس مع التحريك القدري للمستنقع العربي، وعاشر ضد / ومع أمريكا ….
إنه في بداية الجنون من فرط العبث، كلّ مرّة ، يلتبس فيها النصر والهزيمة. الراية بالأسلحة. والعسكر بالمدنيين.
ورطة لنا جميعاً مقعد المتفرج على الحرب … مقعد المتقاعد الأبدي في شيخوخة الفتوّة المتوفرة معاً في كل تجمّع مؤلف من ثلاثة أجيال .
وها نحن نتفرج على الحرب .
ورأيي أن المسرح الأخير لحروب العرب هو بغداد بعدها سيأتي ” سلجوقيون ” ما ليعرضوا على الجميع فكرة الوداعة في ظل الانحطاط .
المسرح …
إنه ذلك المكان الذي تجرب فيه الولايات المتحدة أسلحتها الآن، ولكنه أيضاً المكان الذي تمتحن فيه الإرادات على ضفة والهوان على ضفة أخرى .
أنا وغيري نتفرج ، إلى أمد بعيد ، على مصائر بلادنا وطناً تلو الآخر ، ودون أن يكون لدينا نخيل العراق ولا كربلاؤه ولا نهراه العظيمان .
نتفرج على ” العرب ” في إحدى مسميات عصرهم : ” عصر المجازر ” وسيكون بوسعنا ، فقط ، رثاء الممالك دون الوصول إلى مديح الحدائق .
أرجو ألا يسألني أي صحفي آخر غيرك عن أي شيء له علاقة بالحرب والسلام !! دعني أرتّب أدوات كراهيتي للحرية على يد …. غزاة !!!