
الرواية تتناول الصراع بين المجتمع الروسي والكنيسة الأرثوذكسية في القرن التاسع عشر، حيث تعرض الفقر والمعاناة والفساد في الأوساط الدينية بأسلوب يمزج بين الخيال والصحافة والحكايات الشعبية.
يتميز الروائي الروسي نيقولاي ليسكوف بتعدد خطوطه الإبداعية، ولكن من أهم الموضوعات التي تميز ليسكوف في الكتابة عنها هو موضوع الكنيسة الأرثوذكسية الروسية. حيث يمكن بسهولة أن نجد أبطالًا من رجال الإكليروس في عدد كبير من أعماله. وإذا وضعنا في اعتبارنا الشكل والدور الذي لعبته الكنيسة الأرثوذكسية ورجالها في تاريخ الأمة الروسية، وأضفنا إلى ذلك قدرة ليسكوف على الكتابة عن كل ما هو شعبي وروسي أصيل، سنتصور بدرجة ما أهمية هذه الرواية “رجال الرب”.
الرواية التي ترجمها يوسف نبيل صدرت عن دار آفاق لم تطرح حلا لفكرة النزاع بين المجتمع وبيروقراطية الكنيسة في ستينيات القرن التاسع عشر، لكن تنحو إلى طرح الأسئلة الضرورية التي لا تسمح بفرض أي من المواقف المعدة مسبقا. كاشفة عن بعض التفاصيل حول المدارس اللاهوتية في روسيا، والفقر الذي عاش فيه الكهنة الريفيون ورجال الدين والإكليريكيين، وانتشار الفساد والمعارك بالأيدي والسرقة من الفقراء.
يلفت المترجم إلى أنه وفقًا لعدد من الباحثين، ترجع أصالة نوع نثر ليسكوف إلى انعكاس الأفكار القومية والدينية والمزيج الأصلي من الخيال والصحافة والمذكرات والحكايات. ويقول “يُشكِّل هذا الخليط العبقري عملنا هذا “رجال الرب”. أصر ليسكوف على تسمية عمله هذا بـ”хроника”، والكلمة بالروسية تعني “تاريخ أو تسجيل أحداث أو وقائع”، وهو شكل أدبي شاع في روسيا في هذه الفترة يسرد حكاية مكان أو شخصية دون التقيد بأشكال الرواية الشائعة.
يتتبع عملنا هذا مسار ثلاث شخصيات من إكليروس مدينة ستارغورود. “ستارغورود” تعني حرفيًّا: المدينة القديمة، وهو اسم لمدينة متخيلة يقص ليسكوف الكثير من حكاياتها بالتركيز على حياة اثنين من كهنة كاتدرائيتها بالإضافة إلى شماس الكاتدرائية.
ويرى نبيل أنه علاوة على الأسلوب الأدبي الفريد والحكايات الممتعة والهزلية والمأساوية في الآن ذاته ثمة أهمية بالغة لهذا العمل من الناحية التاريخية والاجتماعية، تكشف لنا هذه الحكايات عن العقلية الشعبية والدينية التي تميز بها عدد ضخم من الروس في هذا الوقت. ثمة حكايات وأساطير وخرافات كثيرة في حكايتنا، بالإضافة إلى رصد الصراع العنيف بين المتدينين والعدميين في روسيا في هذه الفترة الحرجة. ظل موضوع تحرير الأقنان وعبوديتهم هو المسيطر على الكثير من الأعمال الأدبية في فترة مبكرة من الأدب الروسي، ولكن بعد تحرير الأقنان في 1861 ظهر موضوع جديد في بعض الأعمال الروسية؛ “ظاهرة العدمية”. ربما من أشهر الأعمال التي تناولت هذا الموضوع وتُرجمت إلى العربية هي رواية “الآباء والبنون” لتورجينيف. في هذا العمل نجد رصدًا لأصداء هذا الصراع في مدينة إقليمية صغيرة.
ويشير نبيل إلى أن نيقولاي ليسكوف حكَّاء بارع، وإذا كان قد لجأ في هذا العمل إلى هذا الشكل المتحرر الذي يمكنه به أن ينخرط في حكاياته الساحرة لعدد طويل من الصفحات، ففي الوقت ذاته لكل حكاية من هذه الحكايات أهمية كبيرة في بنية العمل. بالرغم من اتكائه على تقنية الراوي العليم فإن تعدد الأصوات في الرواية واضح ورائع. لكل شخصية لغتها وأفعالها وردود أفعالها الخاصة. وبالرغم من الأحكام التي يُطلقها الراوي على أبطاله في مواضع كثيرة، فإن حياديته عميقة ومستترة. في مواضع كثيرة من العمل يجد القارئ نفسه متعاطفًا مع شخصيات الرواية، وفي أحيان أخرى لا يصدق مدى سذاجتها، وفي مواضع أخرى قد يغضب من سلوكياتها. تعتمد حكايات ليسكوف على خبرته العميقة بالطبائع الروسية. استفاد الكاتب من تجواله في الأراضي الروسية ولقاءاته بمختلف أنواع الطبقات والشخصيات؛ الأمر الذي مكَّنه من كتابة مثل هذه الأعمال.
ويقول “بعيدًا عن الأهمية الاجتماعية والتاريخية لهذا العمل يلفت بعض الدارسين والنقاد النظر إلى الأهمية الفائقة لأدب ليسكوف في تشكيل ذائقة وأسلوب كُتَّاب مرحلة تالية: المرحلة الرمزية ومؤلفو الأعمال المهمة في بداية القرن العشرين. من الصعب مثلًا أن نغفل تأثر ألكسي ريميزوف بليسكوف من حيث الاهتمام الشديد بالأساطير والمعتقدات الشعبية. يمكننا أيضًا أن نرصد تأثر زوشينكو وزامياتين بالأسلوب الأدبي لليسكوف، حيث طوَّر زوشينكو حواره ولغته البسيطة بشكل مقارب لما فعله ليسكوف في بعض حوارات أعماله بالرغم من هجوم بعض النقاد عليه بسبب هذا الأمر تحديدًا، كما تأثر زامياتين بابتكارات ليسكوف في مجال الشكل الروائي والقصصي”.
يلفت نبيل إلى أن كل مترجم لليسكوف يواجه صعوبات هائلة، حيث يتسم ليسكوف بلغة شديدة الصعوبة، ويشتق كلمات جديدة كثيرة في الروسية لا وجود لها في القواميس، كما يستخدم كمية هائلة من الكلمات القديمة والشعبية والاصطلاحية. كل ترجمة لليسكوف محكوم عليها بمواجهة إشكاليات لا حصر لها قد يخسر فيها المترجم. لا مفر من الخسارة في الترجمة، ولكن لا مفر من المكسب أيضًا إذا اجتهد المترجم قدر الإمكان. واجهتُ صعوبات هائلة، وحاولت قدر الإمكان أن أُقلِّص حجم الخسارة وأستخدم أسلوبًا قريبًا من روح ليسكوف. أرجو أن أكون قد وُفِّقت بنسبة معقولة في ترجمة هذا العمل الصعب، كما أرجو أن يجد فيه القارئ متعة وفائدة.
مقطع من الرواية
الأمر الذي بدا مثيرًا بدرجة خاصة في أفكاره التي استغرق فيها هو أنها لم تتوقف عند الماضي ولو للحظة واحدة، ولم تتناول أيًّا من الشخصيات الجديدة التي استطاع أن يلتف حولها بهدوء وجرأة بأكثر الحيل فجاجة. بالرغم من أن ذلك قد يبدو غريبًا، فإن بوسعنا أن نقول إن في تيرموسيسوف نوعًا من اللطف مقترنًا بلا مبالاة أخلاقية وقحة بدرجة غير محدودة، وازدراء للناس جميعًا وللآراء كافة. بدا وكأنه قد قرر نهائيًّا أن الضمير والشرف والحب، وبشكل عام كل هذه المشاعر التي يصفونها بالسامية، هي محض هراء وعبث وتفاهة اخترعها الفلاسفة والأدباء وحالمون آخرون مجانين. لم ينفِها. سيكون مثل هذا التصريح مثيرًا للجدل، لكنه ببساطة عرف أنه لا يوجد مثل هذا الشيء حقيقة، ومن ثم لا يجب التوقف عنده حقًّا. لم تكن معاملته للناس أقل غرابة. لم يعتقد قَط أن الشخص الواقف أمامه الآن قد عاش قبل لقائه ويريد أن يعيش بعده، ومن ثم لديه تأملاته التاريخية وتطلعاته الشخصية. لا، بل اعتقد -على حد قوله- أن أي شخصية يراها قد قفزت أمامه كفقاعة مطر أو فطر في تلك اللحظة التي يراها فيها تحديدًا، ومن ثم يتخلص منها ويستغلها بأكثر الطرق وقاحة وفجاجة، وبمجرد أن تنتهي خدمة هذه الشخصية له يتخلص منها ببساطة وينساها تمامًا. قال ذات مرة ببساطة بطريقته الساخرة: «أنا أسيء لأي شخص، وبعد ذلك لا أشعر أبدًا بالغضب منه». كان هذا صحيحًا فعلًا. لو كان أخيل قد عرج عليه في هذه اللحظة في السقيفة أو حتى بريبوتنسكي لتحدث معه من دون أدنى شعور بالإحراج مما حدث في الليلة الماضية.
ميدل إيست أونلاين