رحلة إلى التاريخ : مياه عين الفيجة العذبة! (الحلقة الثانية)
في اللوحات القديمة المرسومة عن مدينة دمشق في الأحقاب الغابرة، تبدو مدينة دمشق واحدة من المدن الساحرة في التاريخ، فهي محاطة بالبساتين الخضراء التي تجمع في أشجارها نخب الفواكه الطازجة وتنبت في أرض بساتينها أنظف خضار العالم وأطيبها، ناهيك عن أزهارها العطرة وورودها، وكانت المياه تنبع على عمق مترين في كل بقعة من أرضها، وقال لنا فلاح عجوز : احفر ذراعين في الغوطة تنبع المياه!
أنشأ هذا الموقع الغني في المياه سمعة طيبة للمدينة، فجاءها الملوك والأباطرة والخلفاء، ولم يتردد الرحالة من الكتابة عنها وعن جمالها وعن عذوبة مائها، وبدت دمشق بفضل ذلك عروس المدن يتغزل فيها كل من زارها !
والحديث عن مصادر المياه في هذه المرحلة من التاريخ يأخذنا من جديد للحديث عن نهر بردى فكانت دمشق تتغذى منه كمصدر رئيسي كما أشرنا عن طريق شبكة معقدة من الفروع والأقنية والقساطل، وكانت المياه توزع إلى المدينة مع إعطاء الأفضلية للمساجد والحمامات، وكان الماء يوزع على المنازل والسبل المنتشرة في شتى أنحاء المدينة وكانت الطوالع تولى رقابة خاصة من قبل طائفة من المختصين ذوي الخبرة، ولم تكن المدينة تعاني من أي أزمة في المياه، ومع ذلك فقد كان التوزيع يجري عن طريق السقائين أو الآبار الموجودة في المنازل..
برزت فكرة إنشاء شبكة للمياه من خلال فكرة تفريع النهر نفسه ، أي نهر نهر بردى، وهناك ممن عاصروا تلك الفترة من يحكي عن فروع للمياه تصل إلى كل بيت ، ومن أجل ذلك يعرف الدمشقيون البحرات في البيوت والنوافير من حولها، وتعرف الحارات قنوات المياه التي تصلها من النهر، وسميت أحياء وحارات دمشقية على هذا الأساس كحارة القنوات الموجودة إلى الآن، وحارة السبع طوالع، والطالع هو طالع الماء، وقد أنتجت الدراما السورية مسلسلا عن طالع الفضة وهو من طوالع الماء الشهيرة في دمشق ..
ومع تطور الحياة الاقتصادية والاجتماعية، فكر الدمشقيون بمد شبكة مياه نظيفة إلى كل بيت، وبالفعل برزت الفكرة منذ العهد التركي، حيث قام الوالي التركي ناظم باشا، وهو شخصية معروف في تاريخ المدينة، قام عام 1906 بجر مياه عين الفيجة إلى دمشق عبر قساطل معدنية، وهي واحدة من أفكار إنشاء شبكة للمياه صارت تعرف فيما بعد بمياه عين الفيجة!
لجأ ناظم باشا إلى تشكيل جمعية ضمت شيخ علماء الشام عبد المحسن أفندي الأسطواني، وعطا باشا البكري والشيخ محمود أبو الشامات والدالاتي، وانتشرت نتيجة ذلك سبل الماء في أنحاء المدينة، والسبيل هو الذي يضخ ماء الشرب مجانا ويقال إن عدد السبل وصل إلى أربعمئة سبيل في مختلف الأحياء السكنية، أما عن تجميع المياه التي تضخ الماء إلى هذه السبل، فقد أنشئت خزانات عالية للمياه كانت دمشق مؤهلة لها لأنها مبنية أصلا على سفح جبل قاسيون، وكان يمكن للخزانات أن تهيئ مسيل المياه لأي مكان فيها، وكان هناك خزانان معروفان بنيا في سفح جبل قاسيون يضخان الماء بمعدل ساعتين يومياً في الصباح وساعتين في المساء.
أسست هذه الخطوة لنمط جديد من الحياة الحضارية لسكان دمشق مالبثت أن تطورت لحماية الينابيع التي ترد منها الماء، فنشأت الأفكار لتحصينها وحمايتها، ومن بين تلك الينابيع نبع عين الفيجة الشهير الذي ستسمى كل المياه باسمه..
بعد نحو عقدين على تشكيل الجمعية التي شكلها ناظم باشا بشأن مياه دمشق ، وتحديدا في عام 1922 قرر عدد من رجالات دمشق إقامة مشروع لجر مياه «نبع عين الفيجة» إلى المدينة، وكانت المبادرة من أحد شخصيات دمشق الاقتصادية الشهيرة لطفي الحفار بتأليف شركة مساهمة وطنية أهلية تقوم بتحقيق هذا المشروع الصحي والعمراني، وتألفت لجنة من أعضاء غرفة التجارة قامت بجمع المعلومات الكافية العائدة لهذه الفكرة التي كانت بعض الشركات الفرنسية، ورجال الأعمال الفرنسيين يسعون إلى المساهمة والاستثمار فيها لكن أبناء دمشق وتجارها حملوا المسؤولية بروح عالية.
قام رئيس غرفة تجارة دمشق عارف بك الحلبوني بدعوة أحد كبار المهندسين في وزارة الأشغال العامة وهو السيد رشدي سلهب، ووقع الاختيار على جلب المياه عبر أنفاق تحفر في الجبال لتأمين وصولها إلى مستوى ارتفاع النبع وزيادة كمياتها بحسب الحاجة، كما قدرت كلفة المشروع مع بناء شبكة لتوزيع المياه في سائر أنحاء المدينة بمئة وخمسين ألف ليرة عثمانية ذهبية، وتقرر أن يكون رأسمال الشركة المساهمة بهذا المقدار على الأقل..
وهذه المعلومات التي ننقلها حرفيا تشير إلى أهمية استغلال الماء بأفضل الطرق للحفاظ عليه كثروة طبيعية نتيجة وعي حضاري يستحق التقدير .
وتقول المصادر إنه بوشر بمرحلة الإنشاء في نهاية عام 1925 تم توقف العمل أثر اندلاع الثورة السورية حتى منتصف 1928 حيث استمرت الأعمال حتى انتهت وتم تدشين المشروع في 3 آب 1932 .
أي أنه وفي الثالث من آب عام 1932 تنعمت دمشق بتدشين شبكة مياه عين الفيجة، فوصلت المياه إلى كل بيت بأسعار رخيصة، وفي التفاصيل التي ترد عن تاريخ الفيجة أن المؤسسة أقامت فوق النبع بناء حديثاً في سنة 1931 لحفظ مياهه من العبث والتلوث، وقد جرت المياه عبر نفق وسط الجبل إلى تخوم
المدينة ..
ظلت مياه الفيجة تدار وتستثمر من قبل الشخصيات الوطنية الاقتصادية السورية ، إلى أن قامت حكومة الجمهورية العربية المتحدة، عندما كانت سورية ومصر دولة واحدة، بتأميم مؤسسة مياه الفيجة وجمعية ملاكي المياه، ونقلها إلى ملكية الدولة عام 1958 فتحولت منذ ذلك الوقت من جمعية أهلية يملكها أهل دمشق إلى مؤسسة عامة تملكها البلدية.
وعاما بعد عاما ، تحولت الثروة المائية لمدينة دمشق إلى واحدة من أهم القضايا الوطنية التي جرت حولها أبحاث كثيرة، فحذرت تلك الأبحاث من التطاول على حرم الينابيع، والبناء بجوارها، ثم لجأت الدولة في مشروعات ضخمة إلى تأمين شبكة لهذه المياه من أحدث الشبكات ساهمت بحفر أنفاقها شركات أوربية معروفة، وتمكنت مؤسسة مياه عين الفيجة، التي تحول اسمها فيما بعد إلى المؤسسة العامة لمياه الشرب، تمكنت من تأمين حفظ المياه من الهدر والتلوث وأوصلت المياه إلى كل أنحاء دمشق حتى إلى البيوت السكنية التي أقيمت في مناطق المخالفات السكنية الكثيرة في أنحاء المدينة وفي جبل قاسيون ..
مع اندلاع الحرب في سورية بعد الأزمة التي نشأت في 15 آذار 2011 لم يكن السوريون يتوقعون أن تتحول ثرواتهم الطبيعية ومنشآتهم الاقتصادية إلى أهداف في لعبة الهيمنة على الدولة التي تدخلت فيها قوى عالمية وأخرجت الأزمة السورية من قضية سياسية داخلية إلى حرب تتصارع فيها قوى عالمية عبر دعمها للمجموعات التي تشكلت على الأرض، والتي حملت السلاح لتحقيق أهدافها فاصطدمت مع الجيش السوري الذي واجهها بضراوة ..
كانت مياه دمشق في ميزان هذه الحرب خارج الصراع القائم، بل إن أحدا لم يكن يتصور أن تدخل دوامة النار لأن من غير المعقول ومن المستبعد في كل أعراف العالم الاعتداء على مياه الشرب، بل ويعتبر ذلك جريمة حرب ..
سيطرت المجموعات المسلحة على نبع الفيجة، وكانت السيطرة محكمة باعتبار أن تهديدات صدرت أكثر من مرة من قادة هذه المجموعات بتدمير النبع فيما لو شنت هجمات عليها ..
في عام 2016، وفي الشهر الأخير منه انقطعت مياه عين الفيجة عن سكان دمشق، ولم تكن دمشق مدينة كما هي من قبل فأصبح عدد سكانها أكثر من ستة ملايين نسمة، وعادت المدينة تبحث عن مياه الشرب من مصادر مختلفة ، وانطفأ الألق الذي تميزت به المدينة عبر التاريخ ، فقد تم تلويث النبع وتدمير بواباته في أبشع جريمة شهدت الحرب على سورية والسوريين !