شرفات

رحلة جبال القلمون مع عماد الدين دبوسي: تلك الأيام هي التي صنعت وجداننا!

عماد نداف

 

 

 

فوق تلال جبال القلمون، تعرفتُ على المحامي الراحل عماد الدين الدبوسي قبل أكثرَ من أربعين عاماً، ومن يعرف (عماد عبد القادر)، كما كنا نسميه أيام العمل السري، يعرف أنه رياضي جيد، ولاعب كاراتيه، ورغم حبه للرياضة، كان مثقفاً وقارئاً من الدرجة الأولى يلاحق كتب المسرح والأدب والسياسية، وكان نشطَ الذهن ذكياً متحمساً للتغيير في بلاده.

كان ذلك في صيف عام 1979، وكنا قد تخوفنا من أن تلاحقنا الأجهزة الأمنية بعد اعتقال غسان المفلح على الحدود اللبنانية السورية، ومعه مفكرة بأسمائنا نحن (الأغرار في السياسة) الذين كنا نطمح إلى التغيير في سورية، عبر حلقة فكرية تبحث عن أمل.

لم نكن نتوقع وعورة الطريق وصعوبة تسلق الجبال المتتالية في سلسلة جبال لبنان الشرقية، ومع ذلك كان قرارنا الخروج من سورية بسرعة لتحتضننا المقاومة الفلسطينية هناك، فانطلقنا سيراً على الأقدام في ساعة متأخرة من ذلك المساء البارد، وكان المسير صعباً عبر السهول والوديان، فاهترأت أحذيتنا، وغزا البرد القارس عظامنا، ومع ذلك عبرنا الحدود إلى لبنان عبر طريق طويل متعرج بين الجبال.

عند الصباح وصلنا إلى مدينة بعلبك حيث استرحنا في بيت أقاربه هناك ، ريثما تأتي سيارة وتأخذنا إلى بيروت، وكان عماد الدين يتصرف بمسؤولية عالية وثقة في النفس، ومن ذلك اليوم عرفته مقرباً من روحي، وواحداً من أجمل الأصدقاء الذين تركوا أثراً كبيراً في حياتي  امتد لعشرات السنين.

من المفيد أن أستعيد تلك الأسماء الرائعة التي تعلمتْ من بعضها البعض، وأسستْ لتاريخ نظيف من الانتماء الوطني، ثم توزعت هذه الأسماء في الاتجاهات السياسية فيما بعد، كالمحامي سمير عباس والصحفي خليل الخليل والناشطين المعروفين حبيب برازي وغسان المفلح وزياد السخنيني إضافة إلى مجموعة من الفتيات لست في صدد ذكر أسمائهن الآن.

مر زمن طويل على رحلة القلمون الصعبة، وبعدها تجربة بيروت الغالية، وتوفي خليل الخليل ثم زياد السخنيني ثم سمير عباس، وهاهو عماد الدين الدبوسي يغادرنا إلى ديار الحق وفي ملخص الحكاية أننا كنا يساريين، وتغيرت أفكارنا، وعندما شاركتُ في صلاة الجنازة عليه بعد صلاة الظهر في جامع لالاباشا يوم السبت الماضي في 12/4/2025، تذكرت الفارق بين انطلاقتنا عام 1979 حيث تغيرت الأفكار وتنوعت المسارات، واليوم حيث سقطت المنظومة التي قهرتنا، لم تعد تهم انتماءاتنا لأن الانتماء لسورية كوطن حر قوي ينبغي أن ينتصر على الظلم هو الذي ظل يجمعنا.

عشت في بيروت مع عماد الدين قرابة سنة، وكانت لقاءاتنا اليومية هي أجمل مافي ذكرياتنا، وهي لقاءات احتضنتها المقاومة الفلسطينية التي رعتنا طيلة تلك الفترة، وهناك تعلمت الصحافة كما ينبغي أن تكون، وكان علي أن أقرأ مع فنجان قهوة الصباح أكثر من عشر صحف لبنانية وعربية وسورية مؤيدة ومعارضة، وفي بيتي الجميل المطل على المدينة الرياضية في الفاكهاني، والذي سكنت فيه مع صديقي عز الدين عز الدين،  أسست أول مكتبة صغيرة لي خارج دمشق وجرت نقاشات رائعة مع مفكرين وصحفيين وسياسيين .

كان عماد الدين يراهن على مهاراتي التي تنمو، ويطلب مني أن أكتب، ويطالب من يعرفهم في لبنان بتبني كتاباتي، وكانت معارفنا تتسع ومداركناً تنضج إلى أن بدأت مسارات أخرى، فرقتنا وجعلت لكل منا حكاية طويلة تخصه.

بعد عشر سنوات من سجني زارني في البيت ، وكان قد عاد إلى سورية وأصبح محامياً مشهورا، لكن شهرته لم تمنعه من إعادة الاتصال والتفاعل مع أصدقاء ورفاق الأمس، بل والإصرار على القيام بواجب التعزية برحيل الصحفي خليل الخليل ، وفيما بعد برحيل زياد السخنيي، وعندما توفي سمير عباس ودعناه سوية في مشفى الأسد الجامعي وظل عماد يتلقى التعازي بسمير مع أهله.

كذلك شارك عماد دبوسي بحفل التوقيع الباهر لأول رواية تشاركية (القطار الأزرق) ، وكان فرحاً بمشروعي الأدبي كله، وقرأه باهتمام، وكان يتصل بي ويخبرني برأيه في كتاباتي.

اتصل بي بعد سقوط بشار الأٍسد بأسابيع ، واستمر الاتصال نحو ربع ساعة، واستغربت أنه كان يحدثني وكأنه قرر الرحيل : أنت تعرف أن الزمن يمر، وليس من أحد أطلب منه مساعدتي في شأن يخصني.

وطلب مني شيئاً يخص ابنته الصحفية النشطة (آية الدبوسي) ، فطمأنته أننا سنظل معاً، وأن الحياة والموت بيد الله، وأن لكل إنسان ماسعى.

توفي عماد ، ولم يعد هناك من يتصل بي من أصدقائي القدامى إلاّ عدد قليل، ولا أعرف من يودع من ومن يصلي على من ؟!

رحم  الله المحامي محمد عماد الدين الدبوسي واحد من أروع وأعز الأصدقاء في الزمن الذي عشناه ..

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى