((رحلة في التاريخ )) الحلاق عندما يؤرخ: حكاية البديري الحلاق
أينما تتجه في المدن والقرى والبلدات التي تزورها ، تشاهد الحلاقين في الأسواق أو الساحات العامة، فهم أصحاب صنعة شهيرة عرفت بالنظافة والأناقة وعلاقتها بالجمال، وعند هؤلاء كثيرا مايلتقي الناس ويتحدثون فيما بينهم.. إن هذه اللقاءات طبيعية، ففي هذه المهنة لابد من أن تتداخل العلاقة بين الحلاق والزبون ، وبين الزبون والزبون الذين يلتقون في مواعيد الحلاقة التي تتباعد أو تقترب حسب ظروف الناس..على صوت المقص وهو يقلم الشعر ويرتبه في رأس الزبون، تجري تلك الحكايات والأحاديث وتتناقل الألسن تلك الأخبار التي تجري من حولنا.
هذا النوع من العلاقات، أنتج في النصف الأول من القرن الثامن عشر ظاهرة مهمة وطريفة معا، هي ظاهرة جمع الأخبار التي تتوارد عبر الزبائن عند الحلاق ، ففي ذلك الوقت لم يكن هناك إذاعات ولا صحف ولا منادين ينادون إلا لقرارات السلطات العثمانية ووالي دمشق.. تلك الظاهرة مثّلها اسم معروف في تاريخ دمشق هو : ((البديري الحلاق))!
والحديث عن ((البديري الحلاق)) يأخذنا تلقائيا إلى مهنة الحلاقة، وكثيرا ما يغيب هذا الموضوع عندما يفتح ملف البديري رغم أهميته وعلاقته بالتأريخ، فمهنة الحلاق ترتبط بالشعر، ومنذ بداية الخليقة كان على الإنسان أن يحل تلك المشاكل التي تنشأ عن شعره، سواء من حيث طوله أو نظافته أو علاقته بالجمال، ثم من الذي سيقوم بكل تلك التفاصيل التي قد تكون أسبوعية أو شهرية، وهو سؤال بدهي يؤدي للحديث عن مهنة الحلاق الحضارية التي تخص الرجال والنساء على السواء، وعبر التاريخ حيكت الحكايات عن هذا الموضوع ..
عندما تدخل سوق البزورية من جهة الشرق حيث تفوح من السواق روائح البهارات والمكسرات والسكاكر المعطرة لايمكنك أن تعرف أن في هذا المكان كان يعيش البديري الحلاق الذي سجل لنا أهم المحطات في حياة أهل دمشق في الفترة التي عاشها ..
سجل البديري الحلاق في يومياته موضوعات كثيرة من بينها :
أخبار باشوات دمشق وأصحاب المناصب فيها وخاصة الولاة، وقد استغرقت هذه الأخبار معظم صفحات اليوميات. كما سجل أخبار الفتن التي كانت تقوم بها طوائف العسكر العثماني في بلاد الشام وانعكاساتها على حياة الشعب الأمنية والمعاشية، وتوقف عند الحياة الاقتصادية والمهنية والأسعار وأخبار مواكب الحج واهتمامات الناس بها وحفلات وداع الحجيج واستقباله وما يرافق ذلك من عادات وتقاليد وزينات وكذلك أخبار مختلف المناسبات الدينية.
نعم هذا ما تشير إليه المعطيات التاريخية، فدمشق في القرن الثامن عشر، هي مدينة من أجمل مدن العالم يمكنك أن ترى شيئا ملامحها وسحرها القديم فيما هو موجود الآن ولم يتغير، ويمكنك أيضا أن تتعرف على بعض اللوحات التي رسمت عن ذلك الزمن ، وهو زمن قريب على كل حال إذا ما قيس بتاريخها الطويل، كما يمكنك أن تتعرف عليها من خلال كتب تلك المرحلة، ومن بينها يوميات البديري الحلاق الذي تحدثنا عنه ! ..
جاء في الموسوعة العربية أن ((البديري الحلاق)) هو شهاب الدين أحمد بن بُدير، المعروف بالبُدَيْري الحلاّق. مدوّن شعبي، ناظم للمواليا، متصوف في حياته ومعاشه. يتحدر من أسرة شعبية غير معروفة كانت تقطن في ضاحية القبيبات في حي الميدان بدمشق. ولم تحدد المراجع سنة ولادته، ولم تذكر إلا القليل من أخباره أو أخبار أسرته التي كانت تمتهن الحلاقة، فورث البديري عن جده وأبيه تلك المهنة، ونسب إليها، ومارسها في دكان صغير اتخذه قرب قصر أسعد باشا العظم حاكم دمشق.
بدأ البديري تسجيل مذكراته ويومياته سنة 1154 للهجرة الموافق لسنة 1741 للميلاد واستمر في التسجيل إلى سنة 1762 للميلاد، ولعل هذه السنة هي سنة وفاته، إذ توقفت بعدها يومياته، التي اكتسبت أهميتها من كونها صورة عفوية صادقة عن العصر الذي عاش فيه، من النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية والإدارية والأمنية.
على هذا النحو من المعطيات تفصل المراجع التاريخية عن هذا الموضوع، من حقنا أن نسأل عن كتابه ويومياته وعن دور مهنته في استقطاب تلك الأخبار التي يتناقلها الناس والتي شكلت في مجموعها نوعا من المصادر عن تاريخ دمشق في حقبة محددة..
في قصة وصول اليوميات إلينا موضوع آخر لكن من الضروري الإشارة إليه، فقد وجدت في هذه اليوميات في مكتبة الشيخ طاهر الجزائري، وبطبيعة الحال كان الشيخ طاهر احتفظ بها وأعجب بمضمونها بعدما عرف قيمتها التاريخية، فاليوميات تحمل الكثير من تاريخ المدينة الجذاب والحساس، عندما شاهد الشيخ محمد القاسمي هذه اليوميات استأذن بدوره الشيخ طاهر الجزائري بنسخها.. وهكذا كان!
أخرج القاسمي يوميات ((البديري الحلاق)) بحلة جديدة وبعنوان جديد وسمّاها «تنقيح الشيح محمد سعيد القاسمي لحوادث دمشق اليومية». ومنذ ذلك الحين اختفت النسخة الأصلية..
في بحث شيق للباحث السوري في تاريخ دمشق نصر الدين البحرة نقرأ عن دمشق في أواسط القرن الثّامن عشر معتمدا على النسخة التي حققها الدكتور أحمد عبد الكريم كما يُؤرّخ لها البُديري الحلاّق، فالكتاب يحفل بالأخبار التي جمعها البديري في الفترة التي كان يسجل فيها حوادثه وقد استغرقت واحداً وعشرين عاماً .. ويلاحظ الدكتور عبد الكريم أن أنباء الحج حازت على جانب كبير من اهتمام البديري، فقد كان يتتبعها كل سنة ويبدأ تسجيلها، بعد أن تتحرك قافلة الحجاج في أثر المحمل.. ويواصل هذا الاهتمام، بكل ما يمكن أن ينطوي عليه من تفصيلات وأخبار.. حتى تعود القافلة إلى دمشق.
ويقول نصر الدين البحرة :
انطوت يوميات البديري الحلاق في كتابه هذا، على وقائع كثيرة غريبة، يمكن أن نرى أنها من حيث دلالتها الأخيرة، خير شاهد على الحالة الاجتماعية- الثقافية التي عاشها الناس في دمشق في أواسط القرن الثامن عشر الماضي. فإن هناك ربطاً غير عادي، بين بعض الظواهر الاجتماعية كفساد الأخلاق مثلاً على حد تعبير واضع الكتاب، وبين بعض الكوارث الطبيعية كالسيل والزلازل والجراد..
بين الأحداث الهامة التي يؤرخ لها البديري الحلاق في هذا الكتاب واقعة الزلزال الذي ضرب دمشق عام 1759 للميلاد وأشار إليه كمال الدين الغزي في تذكرته الكمالية، وسقطت أثره أبنية كثيرة وقتل عدد كبير من الناس، وكان بين ما تهدم وسقط، رؤوس عدد كبير من مآذن المساجد في دمشق وقبابها، وبينها قبة النسر في الجامع الأموي وثلاث قباب من خان أسعد باشا في البزورية.
ويوضح البديري أن هذا الزلزال تجدد، مثلما كان الغزي قد ذكر، واشتدت الرياح وتساقُط المباني حتى غادر دمشق أهلها… وأقاموا شهوراً في الخيام خارجها، حتى هدأت عوارض الزلزال تماماً. يسجل البديري أن زلزلة بدمشق حصلت عام 1757 للميلاد، وكانت أخرى سبقتها قبل ثلاثة أعوام إلا أنهما لم تكونا في شدة زلزال عام 1759 ولم تستمرا زمناً كالزمن الذي استغرقه هذا الزلزال الفاجع طوال عشرين يوماً.
يحدثنا البديري أيضا عن كسوف الشمس الذي شاهده أهل دمشق في التاسع والعشرين من رجب عام 1161 للهجرة الموافق لعام 1748 للميلاد. يقول البديري واصفا تلك الواقعة :
“كسفت الشمس حتى أظلمت الشام ورأت الناس النجوم كما تراها في الليل، ومكثت مكسوفة إحدى وعشرين درجة. وصلّت الناس صلاة الكسوف في الجامع الأموي. وبعد خمسة عشر يوماً، ليلة الجمعة رابع عشر من شعبان، من هذه السنة خسف القمر خسوفاً بليغاً، حتى لم يظهر منه شيء، وكان ذلك في الساعة السابعة من الليلالتي تجيء وسط الليل وفقا لحسابات ذلك الزمن.
في عرضه للكتاب، ينقل نصر الدين البحرة أن من بين الأحداث الهامة التي أرَّخها الشيخ البديري هي بناء قصر العظم. ولقد روى قصة إقامة هذا المبنى بالتفصيل بين يوم وآخر، من الأيام التي سجلها في دفتره. كان هذا القصر يحتل أهمية خاصة، إضافة إلى قيمته التاريخية، ذاك أنه مثال لا يقلد عن البيوت الشامية من حيث اجتماع كل الخصائص من فن البناء والهندسة والتزيين والمرافق. وجاء في يوميات الشيخ البديري:
في تلك الأيام أخذ أسعد باشا دار معاوية، والمقصود هو قصر الخضراء، وأخذ ما حولها من الخانات والدور والدكاكين وهدمها وشرع في عمارة داره: السرايا المشهورة التي هي قبلي الجامع الأموي. وجدَّ واجتهد في عمارتها ليلاً ونهاراً. وقطع لها من جملة الخشب ألف خشبة، وذلك ما عدا الذي أرسله له أكابر البلد والأعيان من الأخشاب وغيرها.
انتهى بناء قصر العظم في تلك السنة ، أي عام 1761م، فكان داراً كما يقول هذا المؤرخ الشعبي “ما صار نظيرها، ولا عمل مثلها، ولا وجد في الكون لها مثيل”هذه المعطيات وصلتنا من هذا الكتاب العجائبي عن تاريخ دمشق. ولولا دكان الحلاق لما تجمعت هذه الأخبار، ولما وصل إليها البديري أصلا ، والغريب أن دكان الحلاق ، وخاصة حلاق النساء في عصرنا هذا ، تهيئ زائرها لسماع الأخبار، وفي هذا العصر، كثيرا ما نسمع أخبارا لاترد في وسائل إعلامنا .. الأخبار التي ترد إلينا من هناك جميلة وخاصة ومهمة أحيانا، ولكن للأسف ليس هناك من يقلد البديري في تسجيل تلك المعطيات.