كتب

رحلة مع الحقائب في ‘أمتعة’ سوزان هارلان

تأخذنا الكاتبة سوزان هارلان أستاذ مساعد الأدب الإنكليزي بجامعة ويك فورست في وينستون سالم في كتابها “الأمتعة”، في رحلة مع الحقائب التي تَدعم حياتنا، وتكملها، وترافقنا فيها. يتطرق الكتاب أولا إلى ما تحدث في المطار أثناء انتظار حقيبتك، ثم تتحدث الكاتبة عن الأسرار التي قد تحملها الحقيبة.

بعد ذلك توضح لنا ـ بوصفها حاصلة على درجة الدكتوراه في الأدب الإنكليزي ـ الفارقَ بين المعنى الإنكليزي لكل من “الأمتعة” و”المتاع”، وأصل الكلمتين لغويا. وبالطبع، لا يمكِن للمرء التفكير في الأمتعة دون التفكير في حزمها؛ لذا يتناول أحد فصول الكتاب هذه النقطة بعناية، ويقدم للقارئ بعضَ النصائح المفيدة حول حزم الأمتعة بكفاءة. وإضافة إلى ذلك، تضيف الكاتبة لمسة شخصية من خلال التحدث عن الأمتعة التي تمتلكها شخصيا. وأخيرا، تنهِي الكتاب بالتحدث عن الأمتعة المفقودة وما يحدث لها.

تقول هارلان في كتابها الذي ترجمته أسماء عزب وصدر بإتفاق قانوني بين مؤسسة هنداوي ودار نشر بلومزبري “تحمل الأمتعة أسرارا. وتعود بعض هذه الأسرار إلى الحقائب والصناديق الكبيرة والبعض الآخر ليس كذلك. وقد تنتمي إلى التاريخ أو إلى شخص ما أو لا شيءَ على الإطلاق. يتم الكشف عن بعض هذه الأسرار، ويظل بعضها مخفيًّا ومغلقًا. وربما نريد أن تحتوي الأمتعة على أسرار لأن الحقائب توحي بالكثير. وسواء كانت فارغة أو ممتلئة، فهي توحي بأكثر من حقيقتها. والحقيبة المغلقة ـ حتى وإن كانت مغلقة ببساطة وليست مغلقة بسحاب ـ تشبه الطاولة بجانب السرير أو خزانة الأدوية: فهي محظورة. أمتعتنا ملكية خاصة، لكنها تذهب معنا في الأماكن العامة. أنت لا تفتش في حقائب شخص آخر ـ وعندما يحدث ذلك في الجمارك، يبدو الأمر وكأنه انتهاك، كما هو الحال عند تفتيش حقيبتك المشحونة. في هذه الحالة، تجد ورقةً تخبرك بوقوع التعدي، ويتم إعادة مقتنياتك بطريقة عشوائية تشير إلى التدخل الذي تعرضت له.

وتلفت إلى أنه في مسرحية تينيسي ويليامز “عربة اسمها الرغبة”، يفتش ستانلي في صندوق مقتنيات بلانش، ويلقي بمحتوياته في جميع أنحاء الغرفة. هذا الانتهاك يشير مقدمًا لانتهاكه جسدَها فيما بعدـ فهو الهجوم الأول من هجومين ـ ومن خلال التعامل بخشونة مع ممتلكاتها الشخصية، فهو يوضح أنه لن يكون لديها أي أسرار في منزله. فالصندوق الخاص ببلانش يمثل الأمتعة، والأثاث، والشخصية في آنٍ واحد، حضور ثقيل وقاس على خشبة المسرح يعكس جسدها الضعيف، ولكنه مع ذلك صلب كالفولاذ.

ويحتوي، من بين أمور أخرى، على سجلات منزل أجدادها المفقود بيل ريف. إنه بيل ريف على خشبة المسرح، في شكلٍ مهان، وبالنسبة إلى ستانلي، فإن الأوراق التي يحتويها تحمل شرحا لما حدث لهذا المكان المثالي. وعندما يطلب رؤية الأوراق “لإثبات أنه لم يتعرض للغش والحرمان من الثروة المفترضة لزوجته”، تقول بلانش “كل ما أملكه موجود في ذلك الصندوق”، غير مشيرة إلى حدود الصندوق فحسب، بل إلى حدود حياتها أيضا.

وتلفت هارلان إلى أن أفلام الإثارة الجاسوسية والألغاز تعرف أن الحقائب ترمز للسرية، خاصة إذا كانت مصنوعة من الألومنيوم الفضي. في إحدى روايات جون لو كاريه، قد تحتوي حقيبة أو حقيبة مستندات على مستندات سرية للغاية، أو عملات ورقية لا تحمل علامات، أو مجوهرات مسروقة. في جميع الحالات، تؤكد سرية المحتويات قيمتها. تمت محاكاة هذه الفكرة بسخرية في فيلم “ذا بيج ليباوسكي” (1998)، وفي فيلم “دامب أند دامبر” (1994).

وتضيف “غالبًا ما تحتوي الأمتعة على أشياءَ لا ينبغي لها أن تحتويها. فالأمتعة قد تحتوي على سلعٍ مهربة. وفي بعض الأحيان تحمل الأمتعة صورا. في عام 2007، وصلت ثلاثة صناديق من لفات الأفلام تحتوي على 4500 نيغاتيف صور بحجم 35 ملم للحرب الأهلية الإسبانية التقطها روبرت كابا، وشيم (ديفيد سيمور)، وجيردا تارو إلى المركز الدولي للتصوير الفوتوغرافي في مدينة نيويورك.

وجهت هذه الأشياء إلى المؤسس كورنيل كابا، الأخ الأصغر لروبرت ومؤسس المركز. فقد نيجاتيف الصور منذ عام 1939، ولكن عثر عليه في مكسيكو سيتي في الممتلكات الشخصية للسفير المكسيكي في مدينة فيشي، فرنسا. أثبت هذا الاكتشاف صحة شائعة وجود هذه الحقيبة، ولكنها فقدت في الحرب العالمية الثانية. تحتوي هذه الحقيبة على تاريخٍ من العنف؛ صور تتحدث عن الماضي. وهذه الصور ليست السجلات الوحيدة للحرب التي يمكن العثور عليها في حقيبة. فقد اقتبس فيلم “سويت فرانسيس” لعام 2015 من رواية “عاصفة في يونيو”، وهي الأولى من روايتين للمؤلفة الفرنسية إيرين نيميروفسكي التي عثرت عليها بناتها في حقيبة ونشرت في عام 2004. واحتفظن بالدفاتر لكنهن لم يفحصنها، بعد أن افترضن أنها كانت مذكراتها. تحكي الرواية قصة الاحتلال النازي لمدينة بوسي بعد تفجيرات باريس في يونيو 1940 واللاجئين الذين هربوا من المدينة إليها. وتتعلق أيضا بعلاقة حب بين امرأة فرنسية وجندي ألماني.

وكانت نيميروفسكي قد خططت لكتابة سلسلة من خمس روايات، لكنها كانت يهودية، وفي عام 1942 قبض عليها ورحلت وماتت في معسكر أوشفيتز. في نهاية الفيلم تظهر هذه المعلومات على لقطات من الرواية المكتوبة نفسها، كتذكار بكيفية الحفاظ على الأشياء في حقيبة وحمايتها بطريقة لا يمكن تطبيقها على الأشخاص.

وتواصل هارلان أنه في بعض الأحيان تحمل الحقائب تاريخا خاصا وشخصيا أكثر. في عام 2015، اكتشفت مجموعة نفيسة من الرسائل المهملة من القرن الـ 17 في صندوقٍ من الجلد في هولندا. وعرض صندوق يحتوي على 2600 رسالة في متحف البريد في لاهاي عام 1926، لكن لم تدرس مطلقا. كتبت الرسائل بست لغات، وتتحدث عن الحياة اليومية للفلاحين، والتجار، والأرستقراطيين. كان سيمون دي برين وزوجته ماريا جيرمان، مدير مكتب البريد وزوجته في لاهاي منذ عام 1676 وحتى 1707، قد وضعاها في صندوق الأمتعة لحفظها في مكانٍ آمن، لكن لم يأت متلقيها للمطالبة بها. والرسالة التي لا تسلم تصبح “مهملة”. فقيمتها مرتبطة بمتلقيها الذي سيقرؤها. في نهاية رواية “بارتلبي النسَّاخ” لهرمان ملفيل، علمنا أن الكاتب المحير بارتلبي كان يعمل في مكتب الرسائل المهملة. ويتخيل الراوي محتويات هذه الرسائل ـ ربما خاتم مخصص لأصبع شخصٍ ميت الآن أو ورقة نقدية أو عفو أو أخبار جيدة ـ وهذه الأشياء المتخيلة تدفعه إلى تعجبه الأخير “آه، بارتلبي! آه أيتها الإنسانية”. في قصة ملفيل، حرقت الرسائل المهملة، لكن الصندوق المصنوع من الجلد الذي عثر عليه أبقى هذه الأشياء آمنة لمئات السنين. لم يستطع الصندوق إعادة قيمتها، لكنه تمكن من الحفاظ عليها.

وتكشف أن الكوارث تترك الأمتعة وراءها. والإبادة الجماعية تترك الأمتعة وراءها. وتقول “في مقال ديفيد فوستر والاس عام 1995 لمجلة هاربر حول سخافات الرحلات البحرية الفاخرة تحت عنوان “شيء من المفترض أن يكون ممتعًا لن أكرِّره أبدًا”، كان التعامل غير المرئي مع الأمتعة يعيد إلى الأذهان الهولوكوست: “سيدة أخرى من المشاهير تنظِّم الحشود معها مكبِّر صوت وتكرِّر مرارًا وتكرارًا ألَّا نقلق بشأن أمتعتنا التي ستتبعنا لاحقًا، الأمر الذي يبدو أنني الوحيد الذي يعتقد أنه مخيف، حيث يشبه على نحوٍ غير متعمَّد مشهدَ دخول معسكر أوشفيتز في فيلم “شيندلرز ليست”.. منذ سنوات، أُنشئ العديد من أبراج الحقائب في منطقةِ تسلُّم الأمتعة في مطار ساكرامنتو، حيث نشأت.

تتألَّف هذه الأبراج من حقائب سفر عتيقة؛ حقائب جلد وصلبة بألوان وأحجام مختلفة. أظن أنه كان من المفترض أن تكون هذه الأبراج غريبة بطريقة جذابة، شيء تنظر إليه وأنت تشعر بالتعب الناجم عن الطيران منتظرًا ظهور حقيبتك على سَير الأمتعة، لكنني اعتقدت دائمًا أنها تبدو وكأنها نُصْب تذكاري للهولوكوست. إنها لا تذكِّرك بالإزعاج الناتج عن فقدان حقيبة في المطار، بل بالقتل الجماعي وآثاره.اللقطات الإخبارية لتحطُّم الطائرات مملوءة بالحقائب التي تطفو في المحيط أو مبعثرة على جانب جبل. لا نرى الأشخاص الذين ماتوا، لكن عادةً ما نرى أمتعتهم. في النهاية، قد ينتهي الأمر ببعض هذه الأمتعة في مستودَع، مفهرسة ومصنفة. تختفي الحقائب الأخرى أو تغرق أو تحترق في العدم. الأمتعة التي غرقت مع سفينة تايتانيك في الفترة من 14 إلى 15 أبريل/نيسان 1912، صُنِّفت على أنها “مطلوب في المقصورة” أو “غير مطلوب في المقصورة”. أولئك في الدرجة الثالثة ربما كانوا يسافرون بحقيبةٍ من قماش السجاد فقط؛ بينما أولئك الموجودون في الدرجة الأولى كانوا يحملون صناديق، بعضها في مقصورتهم وبعضها مُخزَّن في عنبر السفينة. إذا كانت السفينة قد رست بأمانٍ في مدينة نيويورك، فكان من المفترض أن تُفرَز هذه الأمتعة حسب الفئة، وعلى أساس أبجدي، وتُرَتَّب على الرصيف ليأخذها أصحابها. وبدلًا من ذلك، أصبحت مأهولة بمخلوقات بحرية. مطالبات التأمين المقدمة من الناجين هي الدليل الوحيد لممتلكاتهم المفقودة.

وتشير هارلان إلى أن الحقائب تريد أن تكون مملوءة. تُعرَّف من خلال خلوها أو امتلائها، وحالتها كأوعية تنتقل بين هاتين الحالتين. إذا كانت الرحلة طويلة، أو إلى مكان بعيد، فمن الأرجح أن نضع قائمةً بما نعتقد أننا سنحتاجه؛ فالخوف من نسيان شيءٍ ما يثقل كاهلنا. ربما نكتب هذه القوائم، أو ربما نحتفظ بها في رءوسنا. فبعض الناس بالكاد يفكِّرون فيما يقومون بحزْمه، وبالنسبة إلى آخرين فهو طقس ثقيل تحكمه قواعد وعادات تستغرق سنين. تغلف إحدى صديقاتي ملابسها في مناديل ورقية وتضع بعض الملابس في أكياسٍ ذاتية الغلق. لم أستخدم هذه الأكياس إلا في حالة وجود ملابس السباحة المبتلة. أتذكَّر أنني كنت أفكر منذ سنوات أن هذا قد يستغرق وقتًا طويلًا، ولكن لاحقًا خطر لي أن هذا كان جزءًا من الموضوع: أنها أحبت العملية ودقَّتها. تلف صديقة أخرى جميع ملابسها وتنظِّمها بعناية في أكوامٍ مرتَّبة. أعرف أزواجًا يحزمون أمتعتهم في الحقيبة نفسها “حقيبة واحدة كبيرة بدلًا من حقيبتين صغيرتين” وأزواجًا لم يفكروا أبدًا بمثل هذا الشيء. يدور حزْم الأمتعة حول ترتيب الأشياء بعضها مع بعض، وتجميعها معًا مثل الأحجية.

وترى أن حزْم الأمتعة يتعلق بالإدراج والإقصاء. يمكنك وضع ملابسك على سريرك ومعاينتها. ولكن عليك أولًا تحديد حجم الحقيبة التي ستحضرها معك. الحجم المناسب. الوزن المناسب. النوع الصحيح من المساحات. هل ستسافر بالطائرة أم بالسيارة؟ هل ستسجِّل الحقيبة أم لا؟ هل يمكنك أخذ أكثر من حقيبة؟ نتحدث أحيانا عن الأشخاص على أنهم جيدون أو سيئون في حزْم الأمتعة، ويتعلَّق هذا الحكم التقديري بمدى فعالية شخصٍ ما في تحديدِ ما يحتاج إليه. اليوم، يُعتبر حزْم أمتعة خفيفة أمرًا جيدًا، ويمكن التعرُّف على المسافر المتمرس من خلال البراعة في تدبُّر أمر الأمتعة.

يذكر أن سوزان هارلان حاصلة على درجة الدكتوراه في الأدب الإنكليزي من جامعة نيويورك والماجستير في تاريخ المسرح الإنكليزي الحديث المبكر من كينجز كوليدغ لندن. تشغل منصب أستاذ مساعد في الأدب الإنكليزي بجامعة ويك فورست في وينستون سالم بولاية كارولينا الشمالية، وهي متخصصة في أدب شكسبير وعصر النهضة. تهتم هارلان اهتمامًا كبيرًا بالعلاقة بين المكان، والذاكرة، والأشياء. وتكتب أيضًا عن قضايا المرأة.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى