رحلة يوسف بين عذاب المرض والسراب
في «رحلة يوسف» (دار الكرمة)، يقدّم سامح فايز (1985) حكاية أقرب إلى وثيقة حية. يرصد فايز رحلتين موجعتين؛ الأولى اختارته ولم يخترها وهي رحلة صغيره يوسف، قضاها بين الحضّانات وغرف العمليات، بينما يُصارع الأب المكلوم الزمن بين أروقة المستشفيات، ودوامات الأطباء المتعارضي الآراء.
«مياه ظاهرة على المخ، وبكتيريا تعيش في رأس طفل في يومه الثامن والعشرين في الدنيا، وأقابل ثلاثة أطباء، في كل مرة أحكي القصة نفسها لأنتظر ردَّ أحدهم في دواء غير موجود في مصر من الأساس وتمكنت من إيجاده بمعجزة».
هذا بعض مما يكتبه سامح عن حكاية مرض ابنه، ومغامرات قاسية عاشها للعثور على الأدوية غير المتوافرة إلا في السوق «السوداء» (الموازية)،
والتي يصعب الحصول عليها في ظل أوضاع اقتصادية متردية وغياب تام لمبدأ العدالة الاجتماعية. أما الرحلة الثانية فقد اختارها الكاتب بإرادته؛ فعقب وفاة يوسف بعام يقرر فايز أن يخرج من منزله للبحث عن شيء «يجهله» حيث قضى خمسة عشر يوماً متجولاً في قرى ونجوع الصعيد، يزور مستشفيات ووحدات صحية وأطباء وصيدليات، ويقابل الناس ويسمع قصصهم مع المرض والتي تكشف عن صراع غير متكافئ تماماً، صراع الأضداد، صراع الموت والحياة في بر مصر.
يسجل الكاتب، يوماً بيوم، معاناة عاشها داخل أروقة مستشفى أبوالريش ومستشفى قصر العيني في القاهرة؛ كاشفاً كيف تنتهك كرامة الإنسان بقسوة؛ لا لشيء سوى لأنه مريض يسعى للحصول على حق بديهي تكفله الدساتير والقوانين. لكنه يكتشف عقب معاناة طويلة أنه يلهث وراء سراب وفي أحسن الحالات أنه أشبه بمن يبحث عن إبرة صغيرة في كومة كبيرة من القش.
في القسم الثاني من الكتاب «رحلة إلى الجنوب»؛ لا يفوت الكاتب وهو يرصد تفاصيل رحلته في الصعيد؛ بدءاً من الفيوم ووصولاً إلى أسوان؛ أن يسجل معاناة أخرى لا تقل مرارةً وقسوةً، معاناة عرفها مبكراً؛ عندما ذهب بصحبة والده الموظف في هيئة النقل العام؛ إلى المستشفى بحثاً عن دواء لجملة من الأمراض…؛ «جلسنا أربع ساعات في انتظار طبيب المستشفى الحكومي. أخيراً حضرَ. الممرض يقف على باب العيادة يصرخ في الجميع. بعد ساعات طويلة من الانتظار، لم يجلس أبي مع الطبيب سوى لدقائق عدة، ليخرج محملاً بروشتة عامرة بأسماء أدوية جديدة».
ويكشف فايز عن حجم المأساة التي يعانيها المرضى المتعاملون مع المستشفيات والهيئات الطبية الرسمية؛ «لم نكن نملك المال الكافي لزيارة طبيب خاص. التأمين الصحي كان كفيلاً بعلاج أبي، أو هكذا ظننت خصوصاً بعد وفاته، حين أدركت أن غالبية الأدوية كانت مجرد مسكنات للألم، ولم تضم يوماً علاجاً.
كان المرض يتوغل في الجسد وأبي ونحن لا ندرك أنه طوال هذه السنوات، كان يحمل في حقيبته مسكنات للألم. كان التأمين الصحي يسوقه إلى الموت من دون أن ندري». ويبدو مؤكداً أن دفع ثمن تذكرة في العيادة الخاصة للطبيب المعالج، يكفل للمريض قدراً من الاهتمام أكبر مما يحظى به المرضى في المستشفى الحكومي؛ فالفيروس الذي لازَمَ الأب لسنوات وتسبب في وفاته شفيت منه الأم بعد عامين بالضبط؛ «أدركنا متأخراً جداً أن مئتي جنيه تُدفَع في العيادة الخاصة للطبيب المعالج في المستشفى الحكومي صباحاً كفيلة بإزاحة كثير من العوائق في رحلة العلاج، أو في أحسن الظروف كفيلة لأن يعامل المريض بآدمية».
يخاطب فايز ولده يوسف الذي انتهت رحلته مع الحياة بالموت قبل أن يبلغ الشهرين؛ عبر عدد من الرسائل الموجعة والصادمة في آن؛ وكأنه يواسيه ويربت على كتفه الصغير، أو كأنه يواسي روحه المذبوحة في مواجهة واقع يحوطه الإهمال والفساد من شتى المناحي؛ «لم تكن وحدك يا ولدي من أصابه مكروه ولم يسلم. كنتَ أحسن حالاً لأنك رحلت. هناك من يقف على ناصية الدنيا لا يجد الدواء الذي يحييه، ولم ينته أجله بعد كي يرحل. يعيش هكذا معلقاً بين الحياة والموت».
صحيفة الحياة