«رحلة يوسف» في جحيم الحرب السوريّة
في شريط «رحلة يوسف» بتوقيع جود سعيد (إنتاج المؤسسة العامة للسينما – دمشق)، لن يبقى من بياض الثلج سوى ذلك الطريق المتعرّج مثل لطخة سوداء هي آثار عجلات العربة التي يقودها حصان بصحبة رجل أرهقته الرحلة في اقتفاء أثر ثلاثة شبان هربوا من جحيم الحرب، وها هو يعود من درب الآلام إلى حيّ شبه مهدّم بجثتَين فقط، مثل صيّاد خائب.
ليس الحي وحده من أصابته رضوض الحرب، إنما «يوسف» (أيمن زيدان) أيضاً، إذ بقي وحيداً مع حفيده المراهق، وأرملة شابة (ربا الحلبي) مع ابنة أختها، وصديق (سامر عمران) يعيش أقصى حالات العبث قبل أن يهدي حياته كاملةً من أجل الآخرين في موتٍ شجاع، ليُدفن تحت شجرة، في رحلة هروب جماعية، من بطش أمير إحدى الجماعات التكفيرية الذي قرّر الزواج من الفتاة عنوة، ما يضع يوسف أمام محنة أخرى، في الدفاع عن قصة حب حفيده للفتاة.
هكذا يتجهون إلى مخيم للاجئين عند الحدود اللبنانية السورية كعائلة واحدة في سجلّات ووثائق الأمم المتحدة، لكن الأرملة تخبر يوسف بأنها موافقة على الزواج منه فعلياً، وليس على الورق فقط، بإغواء عطش الجسد. يرتبك العجوز أمام امتحان فرق السن بينهما، ثم يخوض التجربة مرغماً.
ستتكرر ثيمة الاقتلاع بأكثر من إحالة، إذ يحمل وتد الخيمة، وعصا الرجل مجازاً لشهوة العيش فوق أرضٍ صلبة، وبشتل جذور جديدة في المكان الطارئ. في المخيم، سنرتطم بحيوات مختلفة، تبدو كما لو أنها ماكيت مصغّر عن بلاد طحنتها الحرب، لجهة الفوضى والعشوائية والعنف. أطفال ومراهقون يبتكرون أوقاتاً للهو، ونساء هاربات من جحيم الحرب إلى جحيم العبودية. أشواق مشتعلة، وأجساد للبيع، وحوادث اغتصاب، وشهوات تتسرّب من وراء الستائر، وعدسة توثّق بالتناوب، الحياة في المخيّم داخلاً وخارجاً بمشهديات مؤثرة عن يوميات هؤلاء المنسيين، ضحايا حروب الآخرين، وإذا بنا حيال فانتازيا من طرازٍ خاص.
بشر عالقون بين ذاكرتين، ثقل الأمس، وحيرة اليوم. لكن هذه الحياة مشلوعة الأوتاد، تنطوي على فكاهة تبدد مرارة الأيام بمواقف ومفارقات وانتهاكات تفرضها الفوضى وغياب القوانين، فهنا لكلٍ قوانينه الخاصة التي تبيح بطش الآخر، عدا بعض السلوكيات الأليفة التي تمنح قسوة العيش مذاقاً مختلفاً للإنسانية المبدّدة. هكذا تتراكم فواتير الخسارة بالنسبة إلى يوسف بحضور عمّ الفتاة لاسترجاعها عقوبة على هروبها إلى المخيّم وعدم الخضوع لرغبة أمير الجماعة التكفيرية، كأن الماضي لا ينفك يطارد الشخصيات وهي تبحث عن عتبة حياة مختلفة وسط ضبابية اللحظة.
عند هذا المنعطف، سيقترح الشريط (كتابة جود سعيد ووسيم كنعان) فضح نوع من الأفلام التي حاولت استثمار أوجاع اللاجئين بتحقيق أفلام وثائقية تدّعي النزاهة والتضامن مع هؤلاء البشر المخذولين، لكنها ضمناً تتطلع إلى أجندات أخرى وفقاً لرغبة جهة التمويل، وبذلك تبدو حكاية الحفيد وشغفه بكرة القدم بالنسبة إلى المخرجة التي حضرت إلى المخيم لاصطياد «وثائقي» مؤثر، مجرد ذريعة لتحقيق فيلم بالمواصفات المطلوبة لتصدير بضاعة الألم.
وعلى المقلب الآخر، سنتعرّف إلى سيرة الجدّ وعلاقته بحفيده في اعترافات مرتبكة أمام الكاميرا، ذلك أن العاطفة تعمل بطاقتها القصوى في تشريح معنى الحب والخذلان، وكشف جزء من سيرة «يوسف» منذ أن كان يعمل سائقاً على خط الخليج، وكيف فقد ابنه في حادثة تصادم على الطريق، وها هو يرعى الحب بيد، ويدفن أحبابه باليد الثانية، كما لو أن مهنته الجديدة هي دفن موتاه وحسب، في المسافة الفاصلة بين محنة وأخرى.
مشهد هروب الحفيد وحبيبته من بطش العمّ، في شاحنة قمامة بالاختباء تحت الأكياس، يختزل جانباً من المصير البائس الذي ينتظر اللاجئين ولو كان الأمر يتعلّق بقصة حب بريئة، فالعفونة تهبّ بقوة من كل جهات المخيّم. يبرع صاحب «مسافرو الحرب» في التقاط نبض الحياة في شوارع المخيّم، ورسم خريطة المأساة المنسيّة، بتعويض خسائر البشر هناك، ببهجة لونية للأقمشة العازلة التي تزيّن الجدران، بين خيمة وأخرى، أو المشاهد البانورامية للمخيم، إذ تُبنى العمارة البصرية (كاميرا وائل عز الدين) بمهارة على أربع حركات، تبعاً لتعاقب فصول السنة، بعناوين سردية ترصد أحوال الشجن العميق مرّةً، والبهجة العابرة مرّةً أخرى. عناوين يحرسها يوسف كقدّيس مزّقته الأقدار هنا وهناك، بحضور تراجيدي آسر، مشتبكاً بحكايات الآخرين وأوجاعهم، كمن يؤرخ للنسيان والنزوح و اللاأمل، في مكانٍ يضيق تدريجاً على قاطنيه إلى أن يصير «مترين بمتر»!