رحلتي إلى بيروت
رحلتي إلى بيروت… كانت الدنيا لا تتسعُ لأحلامي أو لمشاريعي وخططي …فالكرةُ الأرضية ودولها ومدنها ومعالمها الطبيعية والحضارية كلُّها في متناول يديّ … وكانت رحلتي من فرنسا إلى بيروت تشبه انتقالي من غرفةٍ إلى غرفة ثانية داخلَ منزلي…!
المهم أني وصلت إلى بيروتَ …آه ما أجملَك يا بيروت…!
كلٌُ شئ في بيروت جميلٌ ونظيف وحضاري…ومطارُها أجملُ من مطار ” شارل ديغول “، والخدماتُ فيه نظيفةٌ وسريعة ، تخلو من عمليات النصبِ والغش والسرقة . وسياراتُ الأجرة تتعاملُ معك بكل احترام ، فلا يتناتشك السائقون ، ولا يمزقون حقائبك ، ولا يطلبون منك مئة دولار أمريكي لينقلوك من المطار إلى بيتك في قلب العاصمة ، بل يكتفون بالأجر الرسميّ الذي لا يتجاوز عشرةَ دولارات ، وبالليرة اللبنانية المقدّسة …!
لاحظتُ ، أثناءَ عبورِ السيارة شوارع بيروت ، أن الشوارع مضاءةٌ ، نظيفة ، وخالية من أكداس النفايات والزبالة ، وأنه لا يوجد طوابير أمام الأفران لاستجداء ربطة خبز ، خلافاً لما يزعم الزاعمون ، وأن الطوابير كانت أمام المسارح ، وصالات السينما ، والمراكز الثقافية ، والمقاهي والمطاعم …..
وصلت إلى البناية التي تقع شقتي فيها …فحمدت الله ، وشكرت للدولة عنايتها بالرعايا اللبنانيين ، فكل شئ فيها على أحسن ما يرام …طلبت المصعد وصعدت الى شقتي …وما أن فتحت بابها حتى قفزَ كلُّ شئ فيها ليعانقني …وكأنّ يداً خفيّةً قد أصلحت كل الأضرار التي أحدثها فيها انفجار الرابع من آب منذ سنتين ، وكأن هذا الانفجار لم يحدث …!
دخلت غرفة الاستقبال /مكتبتي التي تضمّ آلاف الكتب التي جمعتها خلال ستين عامًا . فلكل كتاب قصة تفرحني أوتؤلمني …فقبّلتُ بعضها ، ومسّدت بعضها الآخر ، ولاحظت أن الكتب التي لم تجد مكانها على الرفوف لم تستطع الوقوف بعد عشر سنوات قضيتها بعيداً منها ، فانحنيت ملامساً إياها برقة وشوق وشغف …فرضيت أو هكذا خٌيّل لي …!
من قال إن بيروت تعاني من انخفاض قيمة الليرة اللبنانية بنسبة خمسٍ وتسعين بالمئة 95% مقابل الدولار الأمريكي واهمٌ أو مشتبه ، وأن اللبناني يستطيع أن يتصرف بأمواله كيفما يشاء وساعة يشاء ، وأن المصارف لا تحتجزُ أموالَ المودعين وخصوصاً الموظفين . فلا جوع ولا عطش في لبنان ،ولا انعدام للنظافة والكهرباء والخدمات ….ومن ظن غير ذلك فهو واهم أو مغرض أو عميل …كلّ شئ يسير كما يجب أن يكون ، بل أفضل ممّا يفترض أن يكون ، حتى ظن بعضُ الناس أن السويسريين أقتبسوا صناعةَ الساعات الدقيقة الرقيقة ممّا يجري في لبنان ومن حركة اللبناني الواثقة وراء ماله ورغيف خبزه وقسط مدرسة أبنائه وثمن كتبهم وقرطاسيتهم…!
سأنام في شقتي ليلةً ، ثم سأنتقل الى قريتي في جبل عامل غداً صباحاً …..لكن كيف سأذهب ومن أين أحصل على وقود السيارة …؟!
أجابني صوت داخلي …لا تحزن ولا تيأس … ” فالصباح رباح ” …وغداً يوم آخر …وربُّنا هو المسهلُ والميسر …!
وفجأةً مرّت مظاهرةٌ في الشارع ، ترفع شعارات تسعد العقل النيّر ، ويصرخ المتظاهرون قائلين ، كما توهمت ، قائلين :
فليسقط الشعبُ اللبناني العظيم ….وليحيا حكامُ لبنان الأبديين وقادة الميليشيات الملهمين ….!
الموت للشعب اللبناني العنيد … والمجد والفخار لمافيا البنوك وسماسرة المال ….!
الفناء والهجرة لشباب لبنان وشعبه ….والخلود الأبديّ لمن باع لبنان شعباً وأرضاً وبحراً وثروات من أجل صهرٍ أو ابن أو وريث …..!
ثم سكت الجميع فجأة وسجدوا …..يلعقون حذاء حاكم مرْ مصادفة من أمامهم ، يرافقه ثلةٌ من رجال الجهل المقدس …فأيقنت أني في لبنان العظيم ، فأخذت أصرخ في وجه هذا الحاكم ووجه مرافقيه الذين يلبسون أفكاراً وثياباً وأردية وأغطية رأس ، وكلها قابلة للتغيير والتبديل ، و لا تمتُّ الى لبنان ، أو المواطَنَة ، أو الحضارة أو الإنسانية والعدالة بصلة …..
ولم أتنبه إلاّ ويد زوجتي ( زوجي) تهزني ، وتقول لي أرعبتني!ماذا أصابك !؟
فنهضت من سريري وسألتها : أين نحن الآن ؟
فقالت : في فرنسا …..!
فقلت : الحمد لله …!