رحل بسام الملا و في نفسه شيء من باب الحارة !!
في عزّ البرد بالشام ، رحل بسام الملا متدثراً بسيرته الإبداعية ، بعدما لاعب الموت و شاغله بحكايات عن الحارة ، لأكثر من عشرين عاماً ، تغلب فيها على المرض بالفن و الإنتاج .. و اليوم تودع الشام أنموذجاً من المبدعين، شق طريقه من دون شهادات عليا أو أكاديميات . و قد تدرج ترقياً في إخراج الدراما التلفزيونية ؛ درامية كانت أو برامجية ، معتمداً على المثابرة و الإبداع الفطري ، و لا أعرف كيف استطاع أن يبدع فرجة تلفزيونية تشع بجاذبية فنية مبدعة ، تشد الجمهور و تجعله متسامحاً عن بعض المعاني التي لا تقبلها حقيقة الحارة الشامية . بالفعل كان بسام الملا مبدع فرجة تلفزيونية ، بكلاسيكية حيوية لافحة ، مع تحقيقه واقعية لافتة في بعض أعماله .
تشاركت مع بسام ، أول مسلسل درامي أخرجه، و بسبب صداقتنا أعطيته ليقرأ ما كتبته في نص مسلسل ( الخشخاش) ، فأصّر على إخراجه ، و سعى لإيجاد منتجٍ مناسب . و بالفعل استطاع الوصول بإخراجه إلى معاني نص الخشخاش ، حيث كانت المخدرات في المسلسل، المعادل الفني للفراغ الفكري و القيمي الذي يفتح الباب . للطمع و الاستحواذ و النهب وصولاً إلى القتل و التدمي ( الإرهاب) . و بإخراجه للخشخاش، سجل بسام نفسه مخرجاً واقعياً للدراما التلفزيونية بشكل مبدعٍ و مؤثر و جذاب قبل أن يبتعد بعيداً عنها في أعماله اللاحقة .
قبل أكثر من عشرين سنة ، دخل بسام في غيبوبة ، و أجريت له أكثر من عملية جراحية ، و أثناء ذلك كتبت عنه زاوية صحفية ، قلت له فيها ( لا تخف ستنجو ، لأنك مثلي.. محظوظ على قلة دين . كما يقول المثل ) . و بعد شفائه ظل يردد المثل ( محظوظ على قلة دين ) . و لكني أخطأت بقولي . فقد كان ( محظوظاً بإبداع فطري ) جعله مخرجاً متفوقاً بين مخرجي الصف الأول ، و رغم سيل الملاحظات و الانتقادات لأعماله ، شكل بسام الملا علامة فارقة فيما قدمه .
آخر مرة كنت معه على غداء , قبل شهور، قال لي بحرقة ( باب الحارة لي . . و الله باب الحارة لي ) و كانت حرقته بسبب أنه لم يستطع أن يكمل مسلسله الأشهر ، بشكل يعيد للحارة معناها الإنساني الاجتماعي الحقيقي .. و للأمانة, فقد جاءني قائلاً أتمنى أن تقبل عرضي ، أريدك أن تكتب لي الجزء العاشر من باب الحارة ، لأ نني أريد أن أنتقل بالمسلسل إلى صيغة أفضل في تقديم الحارة و أهلها ) . و كان متشوقاً و متحمساً لأن يقدم إحساسه الحقيقي بالحارة , و معانيها, و معاني أهلها ، و بالفعل أنجزنا صيغة في الكتابة . حافظت على عناصر العمل الأصلية ، و ارتقيت بالمحتوى الإنساني الاجتماعي التاريخي للحارة . و بالبناء الدرامي . . و حشد بسام للتنفيذ كل ما يلزم ، و لكن بسبب خلاف تجاري إنتاجي مع شركة أخرى ، حُشدت عناصر كثيرة لتجهض ما خطط بسام لإنجازه ، و تقديم صورة حقيقية لباب الحارة ، و هذا ما خلّف حرقة في نفسه . جعلته يقول ( معقولة لما بدي قدم الحارة على حقيقتها بيمنعوني .. ) و يختم لوعته بالقسم (و الله باب الحارة إلي ) .
رغم كل ما حققه من أعمال ستبقى من كلاسيكيات الدراما التلفزيونية ، رحل و في نفسه شيء من باب الحارة .. غصة لعدم تمكنه من إكماله كما أراد و حضّر و جهّز . و نحن في لحظة فراقه ، لا نصدق أنه غاب ، و مازلنا نظن أنه سيكمل باب الحارة كما أراد رحم الله بسام . و عوّضه عما كابده من ألم و مرض و خيبة و خاصة أنه رحل و في باله و أمله أعمال كثيرة.