رحيل دوريس ليسينغ.. أيقونة الأدب الإنكليزي (اسكندر حبش)
اسكندر حبش
حين منحت لها جائزة نوبل للآداب العام 2007، قالت «اللجنة الملكية السويدية» في بيانها عن الروائية والكاتبة البريطانية دوريس ليسينغ (المولودة العام 1919 في بلاد فارس، إيران اليوم، والتي عاشت قسماً كبيراً من حياتها في زيمبابوي، والتي غيّبها الموت نهار الأحد، أول من أمس) إنها «تكافئ حكواتية ملحمية عن التجربة النسائية، التي، وبارتياب واحتدام وقوة رائية، استطاعت تفحّص حضارة منقسمة».
توصيف صغير، لكنه يحمل في طيّاته الكثير من عوالم هذه الكاتبة، التي عرفت حضوراً كبيراً في المشهد العالمي، حتى قبل الجائزة بسنين عديدة، من هنا، لم تكن جائزة «نوبل» سوى مكافأة لهذا المسار المتشعب الذي عرفته ليسينغ، إمّا من حيث الكتابة، وإما من حيث مسار حياتها الذي عرف أحداث متفرقة عدة، كما تقلبات عدة عرفت كيف تستخلص منها تجارب كتبتها وبثتها في كثير من الأحيان، في كتبها المتفرقة.
لكن وعلى الرغم من هذا الحضور الكبير في خارطة الأدب في العالم، لم تعرف المكتبة العربية الكثير من كتب ليسينغ، قبل «نوبل»، إذ اقتصرت ترجمات كتبها على حفنة صغيرة منها تكاد لا تتجاوز عدد أصابع الكف، من هنا اكتشفناها في لغتها الأصلية أو في ترجمات إلى لغات أخرى، غير العربية. بيد أن من حسنات الجائزة كان في «اندفاع» بعض الناشرين العرب إلى ترجمة عدد من كتبها التي تجاوزت الستين.
في أي حال، قد تكون أفضل وسيلة للاقتراب من عوالم الروائية، وبخاصة الروايات الأخيرة في مسيرة صاحبة «أكبر وعي في الآداب الانكليزية المعاصرة»، هي أن «ننسى» ما كانت عليه في بداياتها، على الرغم من أن ذلك ليس بالأمر اليسير، وبخاصة أن لا أحد يمكنه أن يتناسى أنها «شكلت إحدى «الأيقونات» الكبيرة في المشهد الثقافي الانكليزي المعاصر، على الأقل أيقونة حركتين أو ثلاث من حركات التحرر في عصرنا: الحركة النسوية، الحركة المعادية للعنصرية، الحركة المعادية للرأسمالية. والمفارقة في هذا كله، أن ليسينغ روت لنا القصص، لتصنع منها التاريخ المعاصر أيضاً، ولو بشكل قليل.
فلو نظرنا مثلاً إلى واحدة من رواياتها الأخيرة «الحلم الأعذب» (أو «الحلم الجميل» كما ترجمت بالعربية) لوجدنا أنها ابتعدت فيها كليّاً عن كلّ «إحساس» سياسي طيب ومباشر، كما عن موضوعات اللاعدالة الاجتماعية، التي غالباً ما تطرقت إليها في قصصها، كذلك لا نجد فيها أي نفحة ملحمية تاريخية، وهي التي اعتادت أن تنحو في كتابتها إلى ذلك. صحيح أن قضايا نهاية العصر، بدءاً من ستينيات القرن الماضي وحتى أيامنا هذه، تجعلنا «نغرق» قليلاً في التاريخ، لتأخذنا داخل زوابع الأحداث والأفكار، إلا أننا نقع في كتاب ليسينغ هذا، على سِيَر أشخاص وما يتعرضون له من أحداث مزعجة، أي أنهم أشخاص يقفزون ما فوق إزعاجات الجغرافيا السياسية، وإن كانوا لا يغادرونها، أي أن التاريخ هنا يشكل خلفية الكتاب، أو بالأحرى القماشة التي تنسج فوقها ألوانها المتعددة والمختلفة.
في كتابها هذا، وعلى الرغم من تفتت الأوهام الايديولوجية التي تضفي بظلها على تصرفات العديد من أبطالها، إلا أن ثمة «مرحاً» كبيراً، لنقل، هناك مزاج كتابي، لا نجد أفضل من دوريس ليسينغ، في التعبير عنه. ثمة حيوية خارقة في هذه الكتابة، التي تعتمد في الوقت عينه، على قسوة العبارة، على صوابية اعتماد الكلمة المناسبة. بهذا المعنى جاء الكتاب ليمتلئ بـ«عظمة» الأيديولوجيات لكن ببؤسها أيضاً، كما بالعنف العائلي الرمزي، واحتجاجات الطلاب والذين فقدوا بوصلتهم، أي أنها عكست فيه جزءاً مهماً من حياتنا: «تاريخنا المعاصر»، على شكل مرآة متعددة الجوانب. من هنا شكلّ شهادة استثنائية حول الالتزام الشخصي والفردي لواحدة من كبار كاتبات عصرنا.
كتابها هذا، هو بمعنى ما، كتابة «تاريخ»، لكن عبر نظرة ثلاث «نساء مستقلات وغير فاسدات». هناك نظرة أوروبا العجوز التي لا تزال راسخة في القرن التاسع عشر؛ نظرة الحركة النسوية العائدة لستينيات القرن الماضي؛ وأخيراً نظرة المناضلات الجديدات في العالم الثالث. لكن ما يميز الكاتبة هنا، أنها لا تكثر من التفاصيل العاطفية التي يحبها القراء، وبخاصة الفئة الذكورية جداً، التي تبحث عن هذه التفاصيل. ما نجده عند الروائية العجوز هذه الميل أو لنقل هذه المفاضلة في أن تروي لنا عالم الجنس، تميت شخصياتها وتحيي غيرهم، في كل صفحة. كأننا بالفعل أمام هذه الحياة التي تذهب وترحل، إذ يأتي غيرها من بعدها.
هذه الشهادة على العصر، نجدها أيضاً في «طفل غير شرعي» وهي رواية عن الحرب (حرب السوم) والحب وخيبات الأمل التي تقع على تماس مع الإيديولوجيات، والتي تواجه من دون أي رحمة، الحياة المستهامة والمتخيلة كما تفاهة الواقع. تتجذر روايتها هذه في حقبة معينة، في لحظة تاريخية. تقف خلف هذا الرجل الذي لم يكن يعرف كيف يعيش حياته، المهووس بلحظة ضائعة، بمكان، بأمل، وهي بالطبع أشياء لم يعد ليجدها مطلقاً. نحن أيضاً أمام مناخات الحرب والجنون والفقدان والخسارات والموت الذي يجمد الأحاسيس. كلّ ذلك في أسلوب واقعي صرف، حتى في أدنى لحظاته، بمعنى هذا الوصف الدقيق الذي تجنح إليه ليسينغ حين تنقل إلينا عمليات نقل الجنود. تقودنا الرواية إلى عالم تزهر فيها العواطف والشغف، من دون أن نشعر باختلاجات الكتابة، أي وكأنه يأتي على مسافة من دون أن يبلل الكاتبة.
هذا «الالتزام» لا نجده مثلاً في رواية أخرى (من هذه الروايات الأخيرة) «الجدتان»، إذ تجعلنا قراءته نتساءل فعلاً عن هذه الكاتبة التي خاضت كلّ معارك العصر المنصرم إذ تبدو فيها كأنها تدخل في تسويات تتوافق مع ريح الزمن الحالي، عبر قصة حب «عادية»، لا تثير فينا أي أسئلة متفردة، مختلفة، ولا ينقذها هذا الأسلوب البعيد كثيراً عن تلك الكتابة المتماسكة التي ميزت عوالمها. ثمة خيبة نشعر بها مع قراءة «الجدتان»، على الأقل من حيث «تخليها» عن فضاءاتها الإيديولوجية إذا جاز القول، بمعنى أنها تودع فيها كلّ أنواع الإيديولوجيات وتدفنها إلى «غير رجعة».
من دون شك، مع غياب ليسينغ ثمة صفحة كبيرة ومهمة تُطوى من تاريخ الأدب المعاصر. تطوى صفحة كاتبة شهدت عصرين بكل ما حملهما من تفاصيل، بيد أن العزاء الوحيد يكمن في أننا نستطيع دوماً العودة إلى كتبها لنقرأها، ولنكتشف معها من جديد تلك الحالات والإرهاصات التي لم يعرف سوى الأدب بالتعبير عنها.