مكاشفات

“رسول حمزاتوف”| رائدُ الـحُبّ السامي والانتماء الإنسانيّ (1)

د. محمد الحوراني

أن تتحدّثَ عن داغستان يعني أن تتحدّثَ عن بلد العلم والثقافة والأدب والجمال والانتماء وعشق اللغة العربيّة، وهو حديثٌ يقودُ المرءَ إلى الفخر بأصالةِ شعبِها وعُمقِ انتمائِه، كيفَ لا، وهو الشعبُ الذي ما فتئَ يَقْبِضُ على لُغتِهِ وعاداتِهِ وتقاليدِهِ على الرغم مِنْ أنّ بلادَ الداغستان “مُتعدِّدةُ اللغات… ولسان العلم في جبال الداغستان هو اللسانُ العربيّ، وهو اللسانُ الذي يَتكاتَبُ بهِ أعيانُ الأمة” كما يقولُ الأميرُ شكيب أرسلان في كتابه “حاضر العالم الإسلامي”، وهي البلادُ التي أنجبَتْ خِيرةَ العُلماء والشُّعراء والمُبدعين، أمثال: “أبو طالب وحمزة تساداسا وسُلَيمان ستالسكي وباثيراي وأرجي كازاك وأتم أمين وأفندي كاييف”، وغيرهم؟! كما كانَ قادَتُها العسكريُّونَ من خِيرةِ القادةِ المُثقّفين أيضاً، فالإمامُ “شامل” قائدُ حركةِ التحرُّر الوطنيّ في الحقبةِ القيصريّة عالـمٌ بأصولِ اللغة العربية ومُثقّفٌ رفيع، وكان يُصرُّ على أن تُرافِقَهُ مكتبةٌ كبيرة، قيلَ إنّها كانت تُحمَـلُ على ثمانيةِ أحصنةٍ في أثناءِ حَمَلاتِهِ العسكرية.

ويبدو أنَّ مفهومَ الانتماء عندَ الداغستانيّين قد اشْتُغِلَ على هندسَتِهِ بطريقةٍ مُحكَمة وإحساسٍ جماليّ باذخِ البهاءِ وعميقِ التجذُّر، فإذا كانَ المُثقَّفُ والقارئُ والأديبُ العربيُّ قد تعرّفَ رسولَ الشِّعرِ والبلاغةِ والنقاءِ والأصالةِ في داغستان من خلالِ تُحْفَتِهِ الفنيّةِ الرائعة وملحمتِهِ الوطنيّة “داغستان بلدي” فإنَّ كثيرينَ قد أُعجِبُوا بإخلاصِ “حمزاتوف” لقريتِهِ الصغيرة “تسادا” التي رُبّما لم يسمعْ بها إلّا القليل القليل قبلَ قراءةِ أدبِه، لكنّهُ نجحَ في إطلاقِها إلى العالم وجَعْلِها حاضرةً في غالبيّة كتاباتِ الأدباءِ والشعراء والمُبدعينَ المُنتَمينَ إلى الإنسانية، وقد نجحَ أيّما نجاحٍ في توظيفِ جمالِ الطبيعةِ والجبال في داغستان تماماً كما نجحَ في إلانةِ صُخورِها، وتحويلِ مَراراتِ أهلِها ومُعاناتِهم عبرَ التاريخ إلى قصصٍ وحكاياتٍ وموروثٍ يفخرُ بهِ الداغستانيُّونَ جميعاً، بعدَ أن أضافَ إليها كثيراً من سُمُوِّ رُوحِهِ وحنانِ قلبِهِ وحكمةِ عقلِه، حتّى غدَتْ داغستان مُرتبطةً ارتباطاً وثيقاً بالأدب والشِّعرِ “الحمزاتوفيّ” العابقِ حُبّاً وعشقاً وهُياماً في بلادِه، التي احتضَنَها في نَبْضِهِ وحَرْفِهِ من خلالِ تَغزُّلِهِ بطبيعتِها الساحرةِ ووديانِها وجبالِها وجمالِ النِّساءِ فيها، وهو جمالٌ ممزوجٌ بالأصالةِ والنقاءِ والبُطولةِ المُستقاةِ من حكاياتِ الرِّجالِ والأبطالِ عُشّاقِ الأرض، وصُنّاعِ الحياة مِمّنْ كانوا الكُماةَ الحُماة، فاستَحقُّوا أن يكونوا نُورَ الحرف وشُعاعَ الإلهامِ في أدبِ “رسول حمزاتوف”، وهم نبعُ الفخر والاعتزاز عندَهُ، أمّا أمُّهُ التي تعلّقَ بها تعلُّقَهُ ببلادِهِ وعظمتها، وفَخَرَ بها كثيراً، فكانَ لها الحضورُ الأبهى في نُصوصِه، بل إنّ كُلَّ ما يتعلّقُ بأمِّهِ كانَ يَسْري في شرايينِهِ، فلا يكادُ يمرُّ يومٌ أو دقيقةٌ واحدةٌ دُونَ أن تحيا في نفسِهِ تلكَ الأغنيةُ التي غنَّتْها لهُ أمُّهُ فوقَ مَهْدِهِ، وهي مهدُ كُلِّ الأغنيات، أغنياتِ البُطولةِ والأصالةِ والانتماء والفخر بالتاريخ والقيم الإنسانيّة النبيلة، ولهذا حَمَلَها معَهُ أينما توجّهَ وسار، وكانتِ المخدّةَ التي يسندُ إليها رأسَهُ المُتْعَبَ، والنَّبْعَ الذي ينهلُ منهُ في عطشِهِ، تماماً كما هي الموقد الذي يُدفِّئُه، ويحملُ دفئَهُ في حياته.

هذا الحُبُّ والوفاءُ لأمِّهِ سيَجِدُهُ القارئُ عندَ “رسول” نحوَ مُرْضِعَتِهِ في قرية “أراديريخ”، التي اضطُرَّ والدُهُ إلى السفر إليها برفقةِ زوجتِهِ ورضيعها “رسول”. يقولُ “حمزاتوف”: “بعدَ أنْ وَصَلْنا، مَرِضَتْ أمّي مرَضاً شديداً، وفي القرية التي انتقَلْنا إليها حَدَثَ أنْ وُجِدَتِ امْرأةٌ وحيدةٌ ماتَ صغيرُها منذُ مُدّة. هذه المرأةُ أخذَتْ تُرضِعُني، فأصبحَتْ مُرْضِعَتي وأمِّي الثانية. وهكذا أنا مَدِينٌ للامْرأتَينِ على هذه الأرض، فدَينُ الأبناءِ لا نهايةَ له. هاتانِ المرأتانِ إحداهُما أمّي، تلكَ التي وَلَدَتْني، وأوَّلُ مَنْ هزَّ سريري، وغنَّى لي أولى الأغنيات، وتلك الأُخرى، التي قدّمَتْ إليَّ صَدْرَها لـمّـا كانَ محكوماً عليَّ بالموت، فبدأ دفءُ الحياةِ يسري في بدَني، وتحوّلتُ مِن دَرْبِ الموتِ الضَّيِّقِ إلى طريقِ الحياةِ، هيَ أيضاً أمّي”.

إنّها أخلاقُ الشاعرِ المُثقّفِ، والمُبدعِ الحقيقيّ، والمُثقّفِ الكبير، الذي أخلصَ لأرضِهِ كما أخلصَ لأمِّهِ، فغدا شمسَ الثقافة التي تبعثُ النورَ والأملَ والدفءَ للبشريّة جمعاء،  إنّهُ الشاعرُ العُضويُّ الذي أعلنَ أكثرَ من مرة أنَّ الشُّعراءَ ليسُوا طُيوراً مُهاجرةً، وأنَّ الشِّعرَ دُونَ التُّربةِ الأمِّ، ودُونَ الإرْثِ والوطنِ، شجرةٌ مِن دُونِ جذور، وطائرٌ من دُونِ عُشّ، ولهذا كانت داغستان، الأرض والإنسان، العادات والتقاليد، الجبال والوديان، نبضَ أعمالِهِ الإبداعية ودواوينه الشعرية، كما هي أمُّهُ التي عاشَ وماتَ، وحبُّها يسري في هَمْسِ شِفاهِهِ ونبضِ رُوحِه.

وانطلاقاً من الرؤية “الرسوليّة” هذه يُمكنُنا أن نفهمَ تأكيدَهُ العلاقةَ بينَ الوطنِ والأم، إذ ليسَ هناكَ أكبرُ مِنْ فاجعةِ أنْ يُحرَمَ الإنسانُ من وطنه، فالوطنُ كما الأمّ يُعطى لمرّة واحدة، ونحنُ لا نختارُها، وإنما ننشأُ منها، لذا فإنَّ الوطنَ يتطلّعُ بألمٍ وحُرْقَةٍ إلى أبنائِهِ الذين يُضطرُّونَ إلى الرحيل ومُغادرةِ الجبال العالية الغالية. كلُّ ما هُوَ ثمينٌ وصادقٌ يجتازُ العواصفَ والخُطوبَ، كما لو أنّهُ طائرُ الفينيق. هذا هو النُّورُ الذي تَمسَّكَ بهِ “حمزاتوف”، وتلكَ هيَ الأمُّ التي احتَضَنَها، حتّى مات، وذلك هو الوطنُ الذي أوصانا بالحفاظ عليه وحِمايتِه:

“نجومٌ كثيرةٌ… وقمرٌ واحد…

نساءٌ كثيراتٌ… وأمٌّ واحدة…

بلادٌ كثيرةٌ… ووطنٌ واحد…”.

يا لها من تربيةٍ باذخةِ البهاء! تربية انعكسَتْ عِشْقاً وتماهياً معَ تُرابِ الوطن، وفخراً بتاريخ أُمّتِهِ العظيم، وإخلاصاً للقيم والعادات والتقاليد التي ترعرعَ عليها، وهي القيمُ التي جعلَتْهُ وفيّاً لأمِّه، ومُخلِصاً لزوجتِه، فقد رأى وجه أمه وقد شارفت على الثمانين أنقى من صفاء عيون جبال داغستان، وأكثر ربيعاً من  ربوع تلك البلاد، وكانت أمه لحناً شجياً لا يفارق روحه حتى بعد رحيلها بسنوات.

كم “جنكيز خان”! كم “تيمورلنك”! كم “بونابرت”! اختَفَوا جميعاً كالرمل المُنْهار، ذَراهُمُ الزمنُ تِباعاً. ما الذي بقيَ أخيراً إلّا الأغنية والحنان؟ هل بقيَ أخيراً إلا “فاطمة”؟

وهكذا غدَتْ داغستان برجالِها ونسائها، بأطفالِها وشبابِها، بـ”أبيه، وأمِّهِ، ومَهْدِهِ” أيقونةً، تَمسَّكَ بها، تَمسُّكَ الرضيعِ بثدي أمِّهِ وعشقه لحنانها، ولهذا صلّى لأجلِها، وأحبَّها، وتقاسَمَ معها كُلَّ ما قدّمَهُ الناسُ إليه، وعلّقَ أوْسِمَتَهُ وجوائزَهُ التي حصلَ عليها على قِمَمِها الشامخة.

ولأنه كذلك فقد وَصَفَهُ الرّئيسُ الرُّوسي فلاديمير بوتين بأنَه “ابنٌ عظيمٌ من أبناءِ روسيا وكلماتهُ تخاطِبُنا اليومَ وكأنَّه بَيْنَنَا، مؤكداً أنَّه يجبُ على كلِّ إنسانٍ يعيشُ في بلادنا ألّا يَنْسى معتَقَده ودينَه، وألّا يَنْسى انتماءَه العِرْقي. ولكنْ ينبغي عليهِ قبلَ أيِّ شيءٍ أنْ يكونَ مُواطناً في بلدٍ عظيمٍ – روسيا. فالوحدةُ منْ خلالِ التنوّع – ضمانةٌ لقوةِ ونجاحِ بلادنا، لجبروتِ دولتِنا، ولِهَيْبَتِها ونُفُوذِها على المستوى الدُّولي، ويضيفُ “الرئيس بوتين”: كانَ شاعرنا العظيم “رسول حمزاتوف”، وأنا أريد أن أشدِّد على هذا الكلام، يقول: “كنت أنْطَلِق ودائمًا أنْطَلِق من إدراك أنَّ أرضاً واحدَةً هي التي احتضنتنا وأوقفتنا جميعاً على أقْدَامِنا، وأنَّ حياتَنا سوفَ تكونُ موفقةً وناجحةً عندما نكون متحدين مع بَعْضِنا فقط”.

يا له من شاعرٍ عظيمٍ، ويا لها من كلماتٍ عظيمةٍ ورائعة!

المرأةُ المُلْهِمَة:

ولم يَكُنْ مفهومُ الحُبِّ عندَ “حمزاتوف” كما هو عندَ غيرِهِ من الشعراء الذينَ سلَّعُوا المرأةَ، وكان جسدُها مُلهِماً لبُطولاتِهم الوهميّةِ الفارغة، بل كانَ الأديبَ الأريبَ، والشاعرَ الوطنيَّ المُلتزمَ بقضايا أمّتِهِ، فالمرأةُ عندَهُ مُقدَّسَةٌ تماماً كالوطن، ولا يُمكِنُ للوطنيِّ أن يَعْشَقَ أرْضَهُ وتُرابَ وطنِهِ، ويَخُونَ امرأةً أحبَّها، فلا فَرْقَ بينَ أنْ تُحِبَّ وطناً أنتَ مُفردَةٌ من مُفرداتِهِ، وبينَ أنْ تُحِبَّ امرأةً تَسْكُنُ أعماقَ رُوحِكَ، أو تُحبّ مُسافراً قد يَمُرُّ ببيتِكَ، وأنتَ لا تَعْرِفُهُ، بل إنَّ فلسفتَهُ في حُبِّ المرأة تكادُ تكونُ فريدةً، إذ يَعُدُّ الحفاظَ على كرامةِ داغستان من الحفاظِ على كرامة النِّساءِ الجميلات، ولهذا كتبَ في آخرِ رسالةٍ قبلَ رحيلِهِ وصيّةً من أروعِ الوصايا في موضوعها، يقولُ فيها:

“أيُّها الداغستانيُّون! احفَظُوا كرامةَ داغستان والنِّساء الجميلات”، فالمرأةُ هي المُلْهِمَةُ، وهي التي تمنحُ الكاتبَ جمالَ جُمَلِهِ وألَقَ إبداعِه، ولهذا نَجِدُ عناوينَ أعمالِهِ، كما هو مضمونها، يفوحُ منها عطرُ المرأة ونُبلها وأصالتها فهي البنتُ الجبليّة، والسمراءُ، والنجومُ العالية، وشُعلةُ الحُبّ، وهي الأمُّ قبلَ هذا وذاك، ولهذا أوصانا بأن نَصُونَ أمّهاتِنا وبناتِنا وزوجاتِنا، وكانَ رائداً ومُعلِّماً في هذا، وهو ما يظهرُ بوضوحٍ وجلاءٍ في قصائدِهِ التي كتبَها في حُبِّ زوجتِهِ وحبيبتِهِ فاطمة “فاتمات”، التي غادرَتِ الحياةَ قبلَهُ بثلاثِ سنواتٍ بعدَ أن رافقَتْهُ في مرَضِهِ، وكانت الوحيدةَ التي تسمعُ لحنَ أنينِهِ وموسيقا وجَعِهِ، كما كانت رفيقةَ دربِهِ المُصرّةَ على إدخالِهِ المشفى، والقيام بواجباته حينَ تراهُ عاجزاً عن تحمُّلِ ألمِهِ، نتيجةَ المرض الذي ألـمَّ به في آخرِ حياته، وكانتْ تستنطقُ فلسفتَهُ وحِكَمَهُ، حتّى في مرضِه، فقد سألَتْهُ ذاتَ مرّة لمّا كانتْ تُرافِقُهُ في المشفى:

– كيفَ هيَ صحّتُكَ اليومَ يا رسول؟!

فأجابَها مِنْ فَوْرِه:

– لا يليقُ بالمرء أن يكونَ سليماً في مُجتمعٍ مريض، كما لا يجوزُ إعطاءُ قيمةٍ عالميّةٍ لمرضِك الخاصّ.

هذه هي فلسفةُ الرُّسُلِ وأخلاقهم، ولأنّهُ هكذا فقد هامَ في حُبِّها والإخلاص لها، حتى بعدَ رحيلها، وقال فيها:

“إذا ما شاءَ القدرُ، وقذفَ بي إلى الغابات

وكان مسموحاً لي أنْ آخُذَ معي

كُلَّ ما أنا في حاجةٍ إليه

كُلَّ ما أُريدُ، فإنِّي سآخذُ صُورتَكِ

سوفَ أحفظُها

كما التعويذة في المطر وفي الضباب…

أنا لا أعرفُ ماذا يُرسِلُ إلى سيّدتِهِ

السَّيِّدُ أو النبيلُ الإنكليزيُّ من الغابات

أمّا أنا فسأكتبُ على ورقةِ نخيل

على وقْعِ الصَّفير الساحرِ لسوناتا بتراركي

وسأضيفُ إليها أشعاري

معَ ابتهالٍ خاشع:

لا تَنْسَيْنِي!

وسأُرسِلُها إليكِ”.

نَعم لَقد دَخَلَتِ المرأةُ وعشقُها إلى شِعْرِه بطريقةٍ قويةٍ وعظيمةٍ، وبأسلوبٍ متناغمٍ وساحرٍ، وبقيتْ المرأةُ والشغَفُ بها في إبداعهِ إلى الأبدِ. ويؤكد “ماغوميد أحميدوف” رئيس اتحاد كُتّاب داغستان السابق ورفيق “رسول حمزاتوف” أن صورةَ الأمِّ وهي تنحني فوق مَهدِ طِفْلها، والمرأةُ الجبلية وهي تُضرمُ النارَ في الموقدِ، والحبيبةُ وهي على استعدادٍ لأن تغفرَ للشاعرِ جميعَ خطاياه، تحولت جميعُها إلى رموزٍ وعلاماتٍ فارقةٍ في شعرِ “رسول حمزاتوف”. وهنّ اللاتي مَنَحنه النارَ والماءَ، الأرضَ والسماءَ، الخبزَ والأغنيةَ، العظمةَ والقوةَ والكبرياءَ:

أريدُ أنْ أعلنَ الحبَّ وطنًا،

يعيشُ فيه الجميعُ في وئامٍ ومودّة.

بحيث أنَّ شعاره سوف يبدأ بسطرٍ:

“الحبُّ أسمى شيءٍ في الوجود!”.

 

يتبع الحلقة الثانية ..

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى