مكاشفات

رسول حمزاتوف (2) : رسولُ العالم

الدكتور محمد الحوراني

نعم، لقد نجحَ “رسول حمزاتوف” في أن يكونَ خيرَ مُراسلٍ وسفير وحكيم تُرسِلُهُ داغستانُ إلى العالم، كما كانَ مُراسلاً خاصّاً للثقافة الإنسانيّة كُلِّها، ورسولَ وطنِهِ كُلِّه، بل رسولَ العالمِ بأسره، بعد أن أرسى قيمَ العدالة والمحبة والتسامح والإنسانية، ورفضَ تقسيمَ الناس حسبَ انتماءاتهم القوميّة أو العِرْقيّة أو الطبقية أو الدينية أو السياسية، ولهذا كان يَصرُخُ مِلْءَ فمِهِ رافعاً يديه إلى السماء:

“كثيراً ما أُفكِّرُ في أنّ الأرضَ كُلَّها وطني، بيتي، أينما وُجِدَتِ المعاركُ والنّارُ ورَعْدُ المدافعِ يحترقُ بيتي… يحترقُ بيتي!”.

وكتبَ في منابعِ حُبِّ الأرض والإنسان والمرأة، فالأرضُ مِحْوَرُها داغستان، والإنسان يَجِدُهُ بَدْءاً بالأقرب، ويدعُو القريبَ والبعيدَ إلى الغناء، أمّا الحُبُّ فهُوَ الخُلُقُ الأقربُ إلى رُوحِهِ، والأقربُ إلى قلبِهِ، وهو حُبٌّ للطبيعةِ والجمال والإنسانية والمرأة سواء.

إنَّ صدقَ انتماءِ شاعرِ داغستان الوطنيّ وأصالتَهُ وإخلاصَهُ لبلادِهِ، جعلَ منهُ شاعراً عالميّاً وإنسانياً، لامسَتْ أشعارُهُ قلوبَ البشر، وخفّفتْ من أوجاعهم، بما تُمثِّلُهُ من صدقٍ في الكلمة وتَعاطُفٍ في الإحساس، بل إنَّ “حمزاتوف” استطاعَ أن يأسِرَ بأدبِهِ وثقافته كبارَ الكُتّاب العرب والعالميّين، فها هو ذا الروائيُّ السوريُّ حنّا مينه يقفُ بخشوعٍ وإجلالٍ أمامَ أدَبِ عظيمِ داغستان وشاعرِها، ويقولُ له:

“أنتَ بمثلِ هذه الحساسية المُرهَفة، الكاشفة، تعرفُ الفرْقَ بينَ رَجُلٍ ورَجُل، امرأةٍ وامرأة، ماءٍ وماء، شجرةٍ وشجرةٍ في وطنِك، حتّى ليُخيَّل لقارئك أنك عرفتَ في داغستانك كلَّ الرجال، كلَّ النساء، كل المياه، كل الأشجار، وفوقها كل الطيور والزهور والأعشاب والأغاني وهدهدات الأطفال، والكتابات على الأبواب وعلى أغلفة الكتب، وأنّ نبضَ داغستان هو نبضُك”.

ثم يسألُهُ، وهو الكاتبُ الحاذقُ والروائيُّ المُبدع:

“ولكنْ قُلْ لي يا حمزاتوف! كيف تُصبحُ الأيائلُ في شِعْرِكَ مُؤَنْسَنَةً إلى هذا الحدّ؟ وكيفَ بأبياتٍ قليلةٍ من الشِّعر تَرسُمُ داغستان وروسيا وفلسطينَ والحُزْنَ والفرحَ والعذوبة؟ وكيفَ الطبيعةُ ذاتُ اللغةِ المُعادية، تصبحُ صديقةً، والطغيانُ يخلعُ عنهُ ثوبَ العُنف، وتغدُو الكائناتُ مُروَّضةً، ثم جامحةً، ثم ثائرةً، ومرّةً أُخرى حُلوةً، نبيلةً، حبيبةً إلى هذه الدرجة؟”.

“اسمُكَ يا حمزاتوف من نار، واسمي من بحر، وكلاهُما في الطبيعة عُنصرُ قُوّة، لكنَّ الشِّعرَ أقوى، والرواية أقوى، ما دامَتِ الكلمةُ هي الأقوى، وما دُمْنا بها نرسمُ خريطةَ العالم ووجهَ الحبيبة، فشِعرُك يَدْخُلُ القُلوبَ دُونَ مراسِمَ على الأبواب!”.

إنّ ما قدّمَهُ “رسول حمزاتوف” في أدبِهِ عامّةً، وفي “داغستان بلدي” خاصّةً يستحقُّ أن نُطلِقَ عليه اسمَ “نصوص مُقدَّسَة في حُبِّ الأرض والإنسان”، وهي نصوصٌ تحملُ الحُبَّ لبلاده والفخرَ بها، كما تحملُ تاريخَها وتُراثَها وطبيعتَها ولهَجاتها وتنوُّعَها الإثني وأبطالَها العظام، وفي طليعتهم الإمام شامل، هذا القائدُ الأسطوريُّ الذي ما كانَ لهُ أن يَسْقُطَ عن ناقتِهِ في الصحراء العربية “لو كان بالقرب منهُ نبعٌ داغستانيّ”، تماماً كما أنّ فلسطينَ التي أحبَّها “رسول حمزاتوف” ما كانَ لها أن تسقُطَ على أيدي الصهاينة، لو كانَ فيها قادةٌ أجلّاء وثُوّارٌ مُخلِصُونَ لقضيّتِهم مثل الإمام شامل، ولن تتحرر فلسطين إلاّ بجهود أبنائها المخلصين المقاومين أمثال الإمام شامل.

“رسول حمزاتوف”! اسمحْ لي في الذِّكرى المئويّة الأولى لميلادِك، وفي الذِّكرى العشرينَ لرحيلِك، أن أقولَ لك:

لقد نجحتَ في جَعْلِنا نَهِيمُ حُبّاً وعِشْقاً بداغستان، بسِحْرِ طبيعتِها، وكبرياءِ جبالِها، وطُهْرِ نسائِها، وبُطولاتِ أهلِها وعِشْقِهم لأرضهم، وإذا كنتُ خلال مسيرةِ حياتي أُصلّي لأجلِ وطني سورية، وأحبُّها، وأتقاسَمُ فرحَها وأوجاعَها، فاليومَ سأصلّي أيضاً لداغستان، موطنِ البهاءِ والجمالِ والأصالة والانتماء، ومُلهمةِ البطولة، وناسجةِ حكاياتِ عشقِ الأرض، والفخرِ ببُطولاتِ الأجداد، “وسأكونُ ضميراً مُتوهِّجاً لأولئك الذينَ أخذَتْهُمُ الحربُ بعيداً”.

ما أحوجَنا إلى قراءةِ أدبِكَ الإنسانيِّ وإبداعك الشِّعريّ والتبحُّر فيه “لإنقاذ البصيرة الإنسانيّة الغارقة في الأمواج العَكِرَة المسعورة”.

طُوبى لداغستان التي أنجبَتْ شاعراً عالميّاً، حافظَ على نكهتِهِ القوميّةِ المُطعَّمةِ برُوحٍ إنسانيّةٍ تُعانقُ السماء.

طُوبى لداغستان التي عشقَها الرسولُ الإنسانُ “حمزاتوف”، وزرعَها حُبّاً لم يَسْبِقْهُ إليهِ أحد.

طُوبى لك، وأنتَ الذي جَعلْتَنا نَزُورُ داغستانَكَ قبلَ أن نأتيَ إليها، زُرْناها من خلالِ أشعارِكَ وقِصَصِكَ وحِكاياتِكَ التي جَعَلَتْ داغستانَ حاضرةً في أنحاءِ العالم كُلِّها، وفي قُلوبِ النَّاسِ جميعاً.

محظوظون أننا في زمانك، يا رسول الشعر، نعيش وننهل من نبع أفكارك الطاهرةِ، ومن قيمك الأخلاقية التي لا يتمتع بها إلا الشعراء الحقيقيون. شكراً لنقاء وبياض ثلوج داغستان التي أنجبت دفء القيمة والقامة السامقة، فغدا اسمه راسخاً في العقول والقلوب رسوخ الجبال الداغستانية في أرض الطهر والأصالة.

أيها الرسول: نحن يتامى لولاك، لأنك زرعت الحبّ وكنت حريصاً أن يعمّ على الجميع، لا لن يموت ذكرك وإبداعك، وسيبقى شعرك نجوماً متلألئةً في صدور الباحثين عن العلم والمعرفةِ والأخلاق النبيلة، فالجداول والألحان لا تموت مع الوقت، بل تزداد عطاءً وجمالاً ورسوخاً في العقول والقلوب، ومع إشراقة شمس كل يوم يزداد حضورك بهاءً، لأنك غدوت واحداً من الغرانيق البيض التي اختارت التحليق في علياء السماوات فوق قمم الجبال الشاهقة، وما زالت تبعث إلينا نداء الأخلاق والقيم الإنسانية والدعوة إلى التمسك بالأرض والإمساك بها، طوبى لسرب الغرانيق أنك معهم في الظلمة الزرقاء، طوبى لها وهي تواصل تحليقها عبر الحدود والبلدان بعد عشرين عاماً من رحيلك جسداً وبقائك روحاً وسيرةً عطرةً نتعطر بياسمينها الفوّاح.

وأختم بما قالته “مارينا أحميدوفا” شاعرة الشعب في داغستان: “ستبقى داغستان راسخةً على هذه الأرض بكل عظمة وكبرياء، مثلما هي شامخة هذه الجبال! طالما أنّ سكان الجبال فيها قادرون على أن يلدوا مثل هكذا أبناء”.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى