مكاشفات

رشاد أبو شاور.. تَعشيقٌ بالانتِماءِ على أَصالةِ الموقفِ

د. محمّد الحوراني

أنْ تتحدّثَ عن رشاد أبو شاور يَعني أن تتحدّثَ عن مُثقَّفٍ بحجمِ الوجَعِ الفلسطينيِّ والإصرارِ على المبادئِ والثوابتِ والمُقاوَمةِ على الرَّغْمِ من التخاذُلِ والتآمُر والمُعاناةِ التي لَحِقَتْ بهِ نتيجةَ صلابةِ مواقِفِهِ وإمساكِهِ بجَمْرِ الإخلاصِ والوفاءِ لأمِّهِ فلسطين ولوَطَنِهِ العربيِّ وأبناءِ أُمَّتِهِ في أحْلَكِ الظُّروفِ وأقساها، بل إنّ خيانةَ الجسدِ التي أصابَتْهُ في أيّامِهِ الأخيرةِ زادَتْ من عزيمَتِهِ وثباتِهِ وثِقَتِهِ بانتصارِ الشَّعْبِ الفلسطينيِّ الذي عانى ما عاناهُ نتيجةَ الإجْرامِ الصهيونيِّ وحربِ الإبادةِ التي لا يزالُ يتعرَّضُ لها منذُ قَرْنٍ من الزَّمنِ تقريباً.

ولهذا فإنَّ أمَلَهُ كانَ كبيراً في بُزوغِ فجرِ فلسطينَ بَعْدَ السَّابعِ من تشرين الأوّل عام 2023، على الرَّغْمِ منَ العددِ الكبيرِ من الشُّهَداءِ مِنْ أطفالِ فلسطينَ ونِسائِها وشبابِها وشُيوخِها، وعلى الرَّغْمِ من الدَّمارِ الهائلِ الذي أصابَ قطاعَ غزّةَ خُصوصاً، وفلسطينَ عموماً، ولأنَّ أبا الطَّيِّب كانَ الرّوائيَّ المُؤرِّخَ، والباحِثَ العارفَ بتفاصيلِ التاريخِ، والمُنقِّبَ في أحداثِهِ وفي ثوراتِ الشُّعوبِ الطامِحَةِ إلى التَّحرُّرِ والخلاصِ فقد كانَ واثقاً بتحريرِ فلسطينَ بكُلِّ ما تَحْمِلُهُ من بهاءِ الجغرافيا ونقاءِ التاريخِ وتَجذُّرِ الموقفِ وثَباتِهِ، ولهذا كانَ حريصاً على تأكيدِ ثباتِ الحقِّ الفلسطينيِّ في رواياتِهِ ومَقالاتِهِ وقِصَصِهِ ومسرحيّاتِهِ وكتاباتِهِ الطِّفليّة، كما كانتْ فلسطينُ حاضرةً بتفاصيلِها كُلِّها وبتاريخِ أهلِها في أحاديثِهِ ولقاءاتِهِ وحواراتِهِ، تماماً كما كانتْ قريتُهُ “ذكرين” حاضرةً بحُقولِها، وآبارِ مِياهِها، ومدرستِها المُتواضِعَةِ، وبَيادِرِها، ووَجْهِ أوَّلِ شهيدٍ ارْتَقى دِفاعاً عنها، وكانَ يقينه الثّابت أنّ دِماءَ شهيدِها ستكونُ طريقَها إلى الخَلاصِ والتَّحرُّرِ، تماماً كما كانتْ دِماءُ المُناضِلينَ والشُّهداءِ من أبناءِ الأُمّةِ مَنارةً على طريقِ التَّحرُّرِ والخلاصِ من الاحتلالِ العُثمانيِّ والإنكليزيِّ والفرنسيِّ وغَيرِها من مَوْجاتِ الاحتلالِ والاستعبادِ والاسْتِدْمارِ لدُوَلِنا والإهانةِ والقتلِ والتشريدِ لشُعوبِنا.

ولم يكُنْ إخلاصُ أديبِنا الراحلِ للمُدُنِ والقُرى الفلسطينيّةِ ليمنعَهُ عن مثيلاتِها في دُوَلِ المُصابَرَةِ والمُسانَدَةِ والثّباتِ على الموقف، ولهذا فإنَّ عِشْقَهُ لدمشقَ وأصالَتِها كانَ لا يختلفُ عن عشقِهِ للقُدسِ وتاريخِها، بلْ إنّ الحنينَ استبدَّ بهِ في أواخرِ أيّامِهِ شوقاً إلى زيارةِ مَعالمِها وشوارعِها وأزِقّتِها وتَنشُّقِ عِطْرِ ياسَمِينِها، لعلَّ هذا يُخفِّفُ عنهُ شيئاً مِنْ وجَعِ الشَّوقِ والحنينِ إلى تقبيلِ أوابدِ القُدسِ ومَعالمِها التاريخيّةِ والثقافيّة، والانحناءِ طويلاً أمامَ أبنائِها المُحافِظينَ على عُروبَتِهمْ والقابِضِينَ على حقيقةِ الكلمةِ الصادقةِ والموقفِ النَّبيلِ الواثقِ بالنَّصْرِ بعدَ الصَّبْرِ والثَّباتِ والتضحياتِ التي لا يَقْدِرُ عليها إلّا الأشِدّاءُ مِنَ الرِّجالِ الرِّجالِ مِنْ أبناءِ فلسطينَ عُموماً، وغزّةَ خُصوصاً.

غزّة التي ما رأيتَ فيها، يا أبا الطّيِّبِ، ساحةَ حربٍ وكفى، بل قبراً مفتوحاً للعالمِ الذي لا يزالُ يُشيِّدُ جداراً من الصَّمْتِ، بل الخذلان والتّواطُؤ على وجَعِ أهلِها، وكانَ يقينُكَ مُتَجذِّراً تَجذُّرَ الزَّيتونِ في فلسطينَ، وراسخاً رُسَوخَ قاسَيُونَ الذي أحببتَ وعَشِقْتَ، بأنَّ هذا الجِدارَ سيتَحطّمُ يوماً على يدِ مَنْ لا يَخافُونَ الموتَ مِنْ أجلِ الحياة، بل إنّ أشجارَ فلسطينَ المَرْوِيّةَ بطُهْرِ دِمائِهمْ ستَغدُو أكثرَ رُسوخاً وتَجذُّراً وصلابةً في وجهِ الأعاصيرِ والرِّيحِ، وحينَ نَقْطِفُ وردةَ التَّحرُّرِ والخلاصِ سنُزيِّنُ بها صَدْرَ فلسطينَ الحبيبةِ وجبينَها العزيزَ الشامخَ بعدَ أنْ بَكَينا طويلاً على صَدْرِ وَجَعِها ومُعاناةِ أهلِها الذينَ لم يَمْنعْهُمُ ارْتِفاعُ مَهْرِ البراري مِن الاعتِناءِ بمُهْرِ البراري ورِعايتِه، إيماناً منهم أنّ الأصيلَ هو الأقدرُ على مُتابعةِ مَسِيرِه حتّى النهايةِ للوصولِ إلى هدفِهِ مهما اتّسعَتِ القِفارُ، وامتدّتِ البراري، وادْلهَمّتِ الخُطوبُ، ولم تَنلْ منهم أيّامُ الحربِ والموتِ، بل كانَ شعارهم الأبديّ “طُوبى للمَوْت”، حتّى وإنْ تخلّى الجميعُ عنهم، إيماناً منهم بأنّهُ “ليسَ سهلاً أن تكونَ فلسطينياً“.

سلامٌ عليكَ مِنْ كُلِّ ذرَّةِ تُرابٍ في سُوريّةَ شَدَدْتَ الرِّحالَ إليها إحْقاقاً للحَقِّ وإبْطالاً للباطل.

سلامٌ عليكَ مِنْ ياسَمِينِ الشَّامِ وحاراتِها العتيقةِ، وهي تحتضنُ ذِكْرَياتِ حُضورِكَ في غِيابِكَ مُتسائِلَةً: ألمْ يَحِنْ موعدُ اللِّقاءِ بمَنْ تُحِبُّ، وأنتَ الذي عَلَّمْتَنا الإخلاصَ يا رشاد؟!

سلامٌ عليكَ، يا أبا الطَّيِّبِ، مِنْ كُتّابِ سُوريّةَ ومُثقّفِيها واتِّحادِها الذي احْتَضَنَكَ شابّاً مُقاوِماً ومُثقّفاً أصيلاً، فكُنتَ الثَّابِتَ على قمّةِ المبادئِ والرَّاسِخَ على جِبالِ الوفاءِ والإخلاص.

سلامٌ عليكَ مِنْ أعماقِ نُصوصِكَ ودلالاتِها ورُموزِها، وهي تُتْلَى على أرْبابِ العُقولِ لتُنِيرَ مَسالِكَ السَّالِكِينَ، وتَهْدِيَ الضَّائِعِين.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى