«رصاص واشنطن»: انقلابات وثورات ملوّنة… وتجويع
فيجاي براشاد – الصحافي والمثقف الهندي اليساري والمدير التنفيذي لـ «معهد «تريكونتيننتال للبحوث الاجتماعية» يتصدّى في كتابه «رصاص واشنطن: تأريخ للمخابرات المركزيّة الأميركيّة والانقلابات والاغتيالات» لمهمّة صعبة: تجميع فسيفساء تاريخ العدوان الأميركي الممهنج والغاشم على الحكومات اليساريّة خلال السنوات السبعين الأخيرة لتكوين صورة لذلك الوحش الكامن في قلب الإمبراطوريّة: وكالة الاستخبارات المركزيّة، أداة واشنطن الأمضى لترتيب أوراق العالم على مقاس رأسماليتها المتوحشة، جنباً إلى جنب مع التقنيّة العسكريّة القاهرة، والدولار، نقد العالم عديم القيمة الفعليّة. والمهمّة صعبة، لأن ثمّة كثيرٌ من البروباغندا الأميركية والتجاهل المتعمّد سعياً لتغييب الفظائع التي لوّنت قطع الفسيفساء تلك، ولأن كثيرين يعجزون عن رؤية صورة مكونة من نقاط متباعدة عبر الزمن، أو ما يعرف بمتلازمة العمى الأميركي.
قامت الدّولة الأميركيّة منذ يومها الأوّل على بحر من الدماء وجبال من الحشرجات والآلام. مشروع الاستعمار الاستيطاني الأكبر في تاريخ الكوكب الذي ألغى وجود عشرات الملايين من سكان الأرض الأصليين بالسكين والبندقيّة والأوبئة والخداع والسياسات العنصريّة طويلة المدى، تحوّل سريعاً إلى وحش إمبريالي يتمدّد بداية إلى جواره الجغرافي مبتلعاً في طريقه عدة أمم صغيرة، ومن ثم إلى نهايات العالم حيث تصل السفن الحربيّة الأميركيّة، بداية من استعمار الفيليبين مع بداية القرن العشرين. لكن الجبروت الأميركي لم يصل بالفعل إلى مداه إلا بعد الحرب العالميّة الثانية (1939 – 1945)، التي انتهت إلى استهلاك قوّة وحيوية المراكز الرأسماليّة الكبرى في ذلك الوقت (أوروبا واليابان)، كما الاتحاد السوفياتي (خسر وحده 27 مليوناً من مواطنيه عسكريين ومدنيين)، وانحسار قدرتها على مدّ نفوذها إلى خارج حدودها القوميّة. لقد كانت تلك حرباً هائلة خرج منها خاسرون كثيرون ورابح واحد: الأميركيّ، الذي انخرط في الحرب متأخراً واستغلّ انهاك الجميع ليوسّع حدود حديقته الخلفيّة من المساحة التقليديّة في أميركا اللاتينية لتبتلع ثلثي أوروبا، واليابان، ناهيك بتسلّم إدارة الاستعمار الجديد لممتلكات الإمبراطوريّات الغاربة بريطانيا وفرنسا وألمانيا والبرتغال: تلك الدول الشكليّة الاستقلال والمستعمرات الاستيطانيّة عبر الجنوب التي رسمت حدودها باعتباطيّة متعمّدة من قبل دبلوماسيين ومغامرين وجواسيس أوروبيين، وأوكل أمر إدارتها اليوميّة في صالح الهيمنة الرأسماليّة لنخب محليّة عميلة تُمنح صلاحيّة التحّكم بـ «رعاياها» سياسياً، وتضمن في المقابل عمليّة تشبيك أسواقها ومواردها المحليّة بالمنظومة المعولمة اقتصادياً، وانخراطها النهائيّ في صف سياسات واشنطن، حتى ضدّ مصالح شعوبها ذاتها.
وقد أنتجت تلك المرحلة في ما أنتجته مأسسة لأدوات الهيمنة الأميركيّة الجديدة على الكوكب: منظمة الأمم المتحدة مع امتلاك الولايات المتحدة لحق النقض كعضو دائم في مجلس الأمن الدولي فيها، واستخدام ذلك لتبرير غزوها لكوريا وفيتنام والعراق، كما حصارها لدول كثيرة رغم كل محاولات الاتحاد السوفياتي (ولاحقاً روسيا) كبح الاستخدام التعسفي لما يسمى زوراً بـ «الشرعيّة الدوليّة»، وما هي إلا شرعة جبروت الإمبراطورية. كما عمّقت الولايات المتحدة سيطرتها على ثلثي القارة الأوروبية بمحض القوة العسكريّة أحياناً، وعبر توظيف جهات يمينيّة فاشيّة لحكم دولها أحياناً أخرى بغاية منع وصول أيّ من تدرجات اليسار إلى السلطة سواء من داخل لعبة الديمقراطيّة أو من خارجها، وأجبرت قوى أوروبا الغربية على الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي الذي أصبح بمثابة ماكينة عسكريّة هائلة لخدمة المصالح الأميركيّة وكان منصة لتدمير أفغانستان والعراق ويوغسلافيا وليبيا، وتضييق الخناق على روسيا والصين، وحصار إيران وسوريا وكوريا (الشماليّة) وفنزويلا، وأيضاً رعاية الثّورات الأميركيّة الملونة في شرقي أوروبا والعالم العربي. لكن التأثير التدميري للهيمنة الأميركية كان بدون شك عبر أنيابها الماليّة: صندوق النقد الدولي ورديفه البنك الدولي. يذهب جنود أميركيون يرتدون بدلات وربطات عنق ويحملون بطاقات تعريف باسم صندوق النقد الدولي إلى بلدان تواجه سوء إدارة مالية نتيجة جشع النخبة الحاكمة العميلة لواشنطن أو لعيوب بنيوية في اقتصادها نتيجة تبعيته للمنظومة الرأسمالية المعولمة، فيسيطرون على البنوك المركزية ووزارات المالية، ويجبرونها على تنفيذ تدابير التقشف والاقتراض.
في الكونغو مثلاً، فرض صندوق النقد الدولي على الحكومة خفض قيمة العملة بنسبة 42٪ للسماح لها بالحصول على مزيد من القروض، ما أدى إلى زيادة أسعار المستهلك بما لا يقل عن خمسة أضعاف وتدمير قيمة أجور معظم المواطنين ودفعهم إلى ما دون خط الفقر، قبل أن يسيطر ممثلو الصندوق العتيد على البنك المركزي ووزارة المالية بشكل كليّ، وتولوا هندسة السياسات الحكوميّة المحليّة بما يخدم مصالح الولايات المتحدة أساساً، ممثلةً في الشركات الاحتكاريّة الكبرى، وبدون أن يطلق الجيش الأميركيّ رصاصةً واحدةً. أمّا درة تاج مؤسسات الهيمنة، فلا شكّ في أنها وكالة الاستخبارات المركزيّة (CIA)، الجهاز العصبي السريّ النّاظم خلف عمليّات إدارة الإمبراطوريّة، خارج فضاء الولايات المتحدة المحليّ، في المجالات كافة، من السياسة إلى الثقافة، ومن الاقتصاد إلى الإعلام، ومن الأكاديميا إلى تجارة المخدرات.
يستعرض براشاد الطرائق المتقاطعة التي استُخدمت بها تلك الأدوات الممأسسة في إحكام سيطرة الولايات المتحدّة على الكرة الأرضية ومنع أي حركة يسارية أو استقلاليّة من الوصول إلى السّلطة أو الاستقرار فيها، ويحدّد بدقة مستعيناً بأمثلة تاريخيّة كثيرة مراحل تغيير الأنظمة من حيث يبدأ بالضغط على الرأي العام في كل من الولايات المتحدة وفي البلاد التي ستكون الضحيّة التالية، إلى إثارة الاضطرابات ودعم الإضرابات المطلبيّة الطابع، وربّما افتعال أحداث عنف وتسليح جهات لا تتورع عن القتل. وعادة ما يتم اغتيال القادة، وكثيراً ما يقتل الآلاف من مؤيديهم بوحشية. والمثال الأكثر فظاعة الذي قدمه براشاد هو الانقلاب الذي وقع في إندونيسيا في عام 1965، حيث قتل الجيش الإندونيسي، الذي أعطيت له قوائم من كوادر يساريّة تريد الولايات المتحدة التخلّص منها، ما لا يقل عن مليون شخص (وفي أرقام أحدث ثلاثة ملايين) كانوا يؤيدون حكومة سوكارنو. في حالات أخرى، كان يتم تجنّب العنف المباشر واستبداله بعنف أبطأ لكن أشمل عبر صندوق النقد الدولي، والأمثلة كثيرة من أميركا اللاتينية، حيث أجبرت الحكومات أو تواطأت على فرض برامج تقشف وحشية أغرقت غالبية السكان في بحر من العوز مقابل إعفاء تلك البلدان من ديونها المستحقة للولايات المتحدة ودول غربية أخرى. وهي أموال انتهى معظمها ثروات في جيوب قلّة عميلة، ومن ثمّ توريطها في دورة ديون جديدة تبقيها في دائرة الخضوع. وفي البرازيل، أدارت المخابرات الأميركيّة انقلاباً اتخذ شكل مؤامرة قانونيّة مشينة أطاحت بالرئيس اليساري لولا دي سيلفا، ممهدين الطريق لتولي الرئيس اليميني الحالي جايير بولسونارو مقاليد السلطة. وقد قدّم واحداً من أسوأ الأمثلة التاريخية على سوء الإدارة والفساد في دولة كانت تعد إلى وقت قريب واحدة من قوى الصف الثاني في الاقتصاد العالمي ضمن مجموعة البريكس مع روسيا والصين وجنوب أفريقيا والهند.
ويوضح براشاد كيف تعمل الولايات المتحدة على التلاعب بالرأي العام والتحكّم بالسرديّة السائدة، وإفراغ المصطلحات من أيّ معنى حقيقي عبر سيطرتها شبه المطلقة على الإعلام والإنتاج الثقافي. فـ «العالم الحر» مثلاً صيغة يكثر تردادها لوصف الليبرالية الغربية مقابل نقيضتها الاشتراكيّة التي تنتهي ضمناً كدول «غير حرة»، فيما الحقيقة البسيطة أن الدّول المنسوبة للحريّة هي تحديداً التي تتولى أسوأ أعمال النهب والترويع عبر العالم، وتدعم شبكة من الحكومات والتنظيمات والأحزاب الفاسدة التي لا يمكن تصوّر أن لها علاقة بأي ديمقراطيّة، كما في مشيخات الخليج. وبعد انتهاء الحرب الباردة بانحلال الاتحاد السوفياتي، انتقلت الولايات المتحدة من فورها إلى «الحرب على الإرهاب». خدعة جديدة تم من خلالها مدّ الوجود العسكري الأميركيّ إلى غربيّ آسيا، وشمال أفريقيا والصحراء الكبرى، وكان أول ضحاياها العراق، الذي تم تحويله عبر حربين إلى حطام تديره عصابات طائفيّة فاسدة، فيما فقد حوالى مليوني عراقي حياتهم نتيجة للعمليات العسكريّة والأمنية فقط.
المطالعة في كتاب «رصاص واشنطن» قد تصيب المرء بالإحباط، لكن ثمّة خلاصتين مهمتين فيه لكل المنخرطين في المواجهة السافرة ضد الرأسماليّة والإمبرياليّة، أولهما فتح الأعين على مركزيّة الولايات المتحدة كنظام ــــ وهو أمر عابر للإدارات والوجوه التي تدير حكومة واشنطن في الأوقات المتعاقبة ــــ في المواجهة الدائرة عبر العالم بدلاً من الوقوع في فخ التنظير المقعّر عن «الناهب الدّولي» أو «الاستبداد» أو «حمقى الأنتي-إمبرياليّة» وغيرها من مصطلحات الهراء الفكري العربي الذي يستهدف حصراً التمويه على العدو الحقيقي. وثانيهما تلك البطولات الملهمة للشعوب والشخصيات التي اختارت مسار المقاومة والتصدي للهيمنة: الشيوعيّون الفيتناميّون، كوبا الجميلة، كوريا الشمالية القلعة الشامخة، توماس سانكارا، باتريس لومومبا، هوغو تشافيز ونيكولاس مادورو وآلاف الرجال والنساء الشجعان في بلاد كثيرة، قاتلوا وصمدوا وربما استشهدوا ولم يرتضوا الذلّة للأميركي القبيح.