لماذا تماطل إسرائيل في إنهاء التصعيد العسكري الدامي على قطاع غزة؟
تماطل إسرائيل في وقف إطلاق النار، منذ انقضاء الأسبوع الأول من العدوان العسكري على قطاع غزة، وترفض كافة المبادرات الأممية ومن ضمنها الأميركية – لتحقيق الهدوء على جبهة القطاع، وفي المقابل عمدت في الأسبوع الثاني من الحرب لتصعيد وتيرة القصف وتكثيف الغارات واستهداف المناطق السكنية، مع التأكيد على استبعاد تهدئة طويلة الأمد.
وعلى الرغم من المبادرة المصرية والوساطة الإقليمية لوقف إطلاق النار التي أتت بعد يومين من بدء العدوان، عقب إطلاق فصائل المقاومة رشقة صاروخية باتجاه مدينة القدس المحتلة في ذكرى ما تسميه إسرائيل “يوم توحيد القدس”، أصرّت إسرائيل على المضي في عدوانها دون تحديد بنك الأهداف، وذلك خلافا لحملات عسكرية سابقة.
وما بين إفرازات ونتائج الحملات العسكرية السابقة على غزة، والمعادلة الجديدة التي فرضتها فصائل المقاومة الفلسطينية التي كانت صاحب الكلمة الأولى في معركة “سيف القدس”، بات واضحا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يسعى من خلال ترحيل وقف إطلاق النار إلى تأطير “صورة انتصار”، وإحباط أي إنجازات إستراتيجية لحركة المقاومة الإسلامية (حماس).
ما الأهداف الإستراتيجية الإسرائيلية المعلنة مع جبهة غزة؟ وهل تحققت بـ”حارس الأسوار”؟
الأهداف الإستراتيجية المعلنة منذ انتهاء عملية “الرصاص المصبوب” عام 2014، كما حددتها الحكومة الإسرائيلية، هي: تعزيز الردع ضد حماس في قطاع غزة، وعودة السلام والاستقرار الأمني في هذه الساحة والتهدئة طويلة الأمد، والحفاظ على ذلك دون التطلع إلى تغيير جذري للوضع في القطاع.
ومع انتهاء الأسبوع الأول للقتال في حملة “حارس الأسوار”، شرعت إسرائيل في إحصاء الأهداف ذاتها التي ما زالت تبحث عنها منذ عام 2014، كما أنها دأبت -مع دخول الحملة العسكرية يومها العاشر- على البحث عن “صورة للنصر”، مما يؤكد وبإجماع مراكز الأبحاث الإسرائيلية أن تل أبيب استنفدت فاعلية استخدام القوة على الجانب الآخر، دون المناورة الأرضية والاجتياح البري لقطاع غزة.
ومع استمرار القتال في غزة، تبرز مرة أخرى المعضلة لدى نتنياهو: متى وكيف وتحت أي ظروف يتم إنهاء الحملة العسكرية بكامل قوتها ووقف إطلاق النار؟
لكن، خلال “حارس الأسوار” (الاسم الذي أطلقته إسرائيل على هذه العملية العسكرية) لم تحرر إسرائيل نفسها من المنطق الذي وجّه عملياتها العسكرية في جولات سابقة من المواجهة مع حماس، وأهمها تحقيق الردع، إذ اتضح مجددا أن نهج وسلوك إسرائيل يفتقر إلى محاولة إنتاج وخلق آفاق وخيارات سياسية منهجية بناءة.
ماذا حققت حماس وفصائل المقاومة من “سيف القدس”؟
حققت حماس والفصائل أهداف حملتها (سيف القدس)، إذ كانت صاحبة الكلمة الأولى وفتح المعركة التي فرضتها على إسرائيل، وذلك خلافا لحملات عسكرية سابقة كانت إسرائيل هي المبادرة فيها.
وبهذا فقد نصبت حماس نفسها مدافعا عن الأقصى والقدس، وأطلقت قذائف صاروخية على عمق الأراضي الإسرائيلية، وتسببت في دمار كبير وخسائر بمئات ملايين الدولارات، كما تسببت الصواريخ بـ12 قتيلا ومئات الجرحى، فضلا عن أنها فاجأت وعطلت روتين الحياة في إسرائيل بسقوط الصواريخ على ما بعد تل أبيب، دون أن يتم اعتراضها أو هزيمة قدرات حماس التي تسعى الآن لترسيخ إنجازها في الوعي الفلسطيني والعربي.
تمكنت حماس -كما المقاومة- من الحصول على حاضنة شعبية لدى الكل الفلسطيني، وليس في قطاع غزة المحاصر منذ 15 عاما، حيث رافق الرشقات الصاروخية على البلدات الإسرائيلية دعم وإسناد لقطاع غزة من الداخل الفلسطيني والضفة الغربية والقدس المحتلتين، وهذا ما أطال أمد المواجهة العسكرية بين إسرائيل وحماس التي ظهرت كأنها تقود المعسكر الفلسطيني، بينما كشف ذلك ضعف السلطة الفلسطينية.
الهدف الإستراتيجي الذي كان من المفترض أن تصوغه الحكومة الإسرائيلية وتعلن عنه -وفقا لضابط الاحتياط أودي ديكل، الذي كان رئيسا لمديرية المفاوضات مع الفلسطينيين خلال حكومة إيهود أولمرت- هو التحكم والسيطرة على مسرح الحرب ضد حماس، ومنع توسع التصعيد والتوتر إلى ساحات أخرى في الضفة والداخل على وجه الخصوص، والتركيز على إضعاف حماس ووقف سيطرتها على الساحة الفلسطينية، وإضعاف قدراتها العسكرية، وإرجاعها إلى ما قبل عقد من الزمان على الأقل، ووضع قواعد جديدة للعبة في الحلبة الفلسطينية، وإعادة السلطة الفلسطينية إلى التمثيل الحصري للفلسطينيين، بالنظر إلى اليوم التالي ما بعد الرئيس محمود عباس.
ولأن كل ذلك لم يتحقق، كما أن الحسم العسكري الإسرائيلي بعيد المنال، يرفض نتنياهو وقف العدوان على غزة خصوصا أنه لم يتمكن من تحقيق ولو حتى إنجاز واحد غير تدمير البنى التحتية والمشاريع السكنية في قطاع غزة، وعليه يرحّل نتنياهو وقف إطلاق النار على الرغم من الضغوط الأوروبية ومطالب الإدارة الأميركية ورئيسها جو بايدن، بغية كسب الوقت وتأطير مشهد انتصار من خلال اغتيال عدد من قيادات حماس أو الجهاد الإسلامي، حيث أقر وزير الاستخبارات الإسرائيلي إيلي كوهين، أن رئيس حماس في غزة يحيى السنوار وقائد كتائب “القسام” محمد الضيف هما في بنك الأهداف، حيث أقر الجيش الإسرائيلي بفشله مرتين في اغتيال ضيف في الأسبوع الأول من “حارس الأسوار”.
وفقا لتطلع نتنياهو وتوجيهات المستوى الأمني والعسكري في إسرائيل، فإن العدوان على غزة سينتهي في غضون أيام، وذلك من خلال وقف لإطلاق النار بشكل أحادي الجانب دون أي اتفاق ودون أي تفاهم بشأن تهدئة طويلة الأمد، على أن تقوم بمصر بتحديد والإعلان عن ساعة وقف إطلاق النار ودخولها حيز التنفيذ.
وفي تحديد آلية إنهاء الحملة ووقف إطلاق النار الأحادي الجانب، تسعى إسرائيل إلى فرض الموعد وشروط انتهاء الحملة من جانب واحد، لتسوّق ذاتها على أنها صاحبة القول الفصل، وتمنع حماسا من السيطرة على العملية لوقف إطلاق النار. وكدرس من الجولات السابقة واستخلاصا للعبر، تسعى إسرائيل إلى تجنب صياغة وثيقة بمبادئ التسوية قبل وقف إطلاق النار وعلى الرغم من أن المستوى العسكري ممثلا برئيس أركان الجيش الإسرائيلي أفيف كوخافي -كما المستوى السياسي ممثلا بنتنياهو- يسعى لإنهاء العمليات العسكرية، فإنه بات من الواضح أنه ليس مريحا لنتنياهو إنهاء الحرب على غزة بالوضع الحالي دون مشاهد انتصار يمكن أن يقتنع بها الرأي العام الإسرائيلي.
يذكر أن نتنياهو الذي اضطر للرد على المقاومة الفلسطينية، يخوض هذه الحرب لدوافع سياسية شخصية، وذلك بغية الهروب من المحاكمة بتهم فساد، وإفشال تشكيل حكومة بديلة برئاسة رئيس حزب “هناك مستقبل” يائير لبيد الذي حصل على كتاب تكليف لتشكيل الحكومة وسينتهي منه بعد أسبوعين، مما يعني البقاء على رئاسة كرسي الوزراء حتى التوجه لانتخابات خامسة.
تستعد إسرائيل لخفض كبير في النشاط العسكري بقطاع غزة، في محاولة لإنهاء العملية نهاية هذا الأسبوع، وفقا للمحل العسكري بالقناة 13 الإسرائيلية ألون بن دافيد، حيث تتجه إسرائيل إلى وقف لإطلاق النار بوساطة مصرية، على أن يتم الترويج لذلك بشكل متدرج خلال الـ24 ساعة المقبلة، ليكون يوم الخميس بمثابة جس نبض واختبار.
يذكر أن المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر للشؤون الأمنية والسياسية (الكابينيت)، أجّل جلسته التي كانت مقررة مساء الأربعاء، وهو الذي من المفترض أن يوافق على وقف العمليات العسكرية، وهذا يشير إلى أنه لم يتم اتخاذ قرار بعد، وعلى الرغم من ذلك فإن التقديرات الإسرائيلية ترى أن وقف إطلاق النار سيدخل حيز التنفيذ منتصف نهار يوم الجمعة المقبل.
وقبل سريان وقف إطلاق النار خلال الـ48 ساعة المقبلة، أعطى وزير الدفاع بيني غانتس أوامره للجيش لتكثيف الغارات والهجمات الليلة على أهداف في القطاع، بغية تحقيق أقصى أهداف الحملة الخاصة لتدمير ما أسماه الجيش “مترو حماس في غزة”، في إشارة إلى شبكة الأنفاق والمدينة التي أنشأتها حماس تحت الأرض، بحسب المزاعم الإسرائيلية.
هل استنفد الجيش عملياته العسكرية ويدفع نحو التهدئة؟
مع اقتراب النهاية المحتملة للعملية العسكرية، يقرّ الجيش الإسرائيلي بجهود حماس المتزايدة لتسجيل الإنجازات وترسيخها في الوعي الفلسطيني، وعليه يسعى لإحباطها، ويركز الجيش معظم جهوده على استهداف خلايا إطلاق الصواريخ وقذائف الهاون.
وتشير التقديرات الإسرائيلية إلى أن الساعات الـ24 القادمة ستضع مبادرة وقف إطلاق النار على المحك. وفي غضون ذلك، تسعى المؤسسة الأمنية إلى استنفاد ما تصفه بـ”الإنجازات العسكرية”، وقد دعا كبار المسؤولين العسكريين إلى تكثيف الهجوم حتى يتم التوصل إلى هدنة، وذلك بهدف إيصال رسالة إلى حماس بأن إسرائيل ليست مترددة في التصرف بقوة على الرغم من الضغط الدولي.
وعليه، فإن من المتوقع أن يواصل الجيش الإسرائيلي قصف البنية التحتية لحركة حماس في قطاع غزة. وتخشى المستويات السياسية والأمنية في إسرائيل من تصعيد من شأنه أن يعيق جهود التهدئة، سواء بسبب مقتل مدنيين في غزة في هجوم إسرائيلي أو بمبادرة حماس لإطلاق رشقة صاروخية مكثفة على تل أبيب ومركز البلاد، من شأنها أن تحرج إسرائيل وتجبرها على الرد.
لقد قدّم الجيش الإسرائيلي مقاربة براغماتية ينبغي بموجبها استئناف عملية التسوية في اليوم التالي للعملية العسكرية لمنع حدوث كارثة إنسانية في قطاع غزة، وفق ما نقل المحلل العسكري في موقع “والا” الإلكتروني أمير بوخبوط، الذي يرجح أنه سيتم طرح قضية إعادة التأهيل وإعمار غزة في محادثات الوساطة، إذ يعتقد مسؤولون في المؤسسة الأمنية أنه سيكون من الصواب المطالبة بنقل مسؤولية تنظيم غزة وإعادة تأهيلها وإعمارها إلى السلطة الفلسطينية، من أجل تعزيز موقعها ومكانتها قبالة حماس.