رفيقة عثمان: قراِءة في رواية “هناك في شيكاغو” للكاتبة هناء عبيد، 2020 دار فضاءات للنشر والطّباعة
صدرت حديثًا رواية هناك في شيكاغو، للكاتبة المقدسيّة هناء عبيد، المغتربة منذ سنوات في نفس المدينة سردت الكاتبة رواية منسوجة بأحاسيس شفّافة، وصفت فيها حياة المغتربين، الّذين ظنّا منهم أن الحياة الرّغيدة تكمن في الغُربة عن الوطن. وصفت الكاتبة المشاعر التي تختلج صدور النساء اللّواتي اضطّررن لمغادرة الوطن مع أزواجهن؛ طلبًا لتحسين معيشتهن الاقتصاديّة والاجتماعيّة.
اختارت الكاتبة عددًا محدودًا من الشخصيّات النسائيّة؛ للتعبير عن آرائهنّ ومشاعرهن حول الغربة عن الوطن. تمحورتِ الشّخصيّات بالرواية من عائلة الراوية نسرين وهي بطلة الرّواية، ووالديها وأختها منال، وصديقتها وداد، كذلك الصديقة حنين في شيكاغو، بالإضافة لشخصيّات ثانويّة أخرى معظمها من النساء الفلسطينيّات المغتربات، مثل: فاتن وزوجها ونساء مغتربات من دول العالم المختلفة؛ مثل مادلين وماريا وجيسيكا، وجاسمين وغيرهن..
عبّرت الراوية نسرين عن عشقها للسفر إلى شيكاغو بلاد الأحلام والسعادة المفقودة في بلادنا. هذه الرغبة باتت حلمًا يرافقها ويرافق الشّباب في عمرها؛ طلبًا للحصول على ظروف معيشيّة تليق بأحلامهم، وغير آبهين بالانفصال عن الوطن الأم. ما دفع نسرين للالتحاق بحلمها بعد أن رفض والدها تزويجها من حبيبها المناضل، ومن ثمّ فقدت نسرين والديها واحدًا تلو الآخر، ورفضها للقبول بالزّواج من أحد المغتربين، ومن ثمّ لم تجد مبرّرًا لبقائها في الأردن..
سافرت نسرين إلى بلاد الأحلام والسّعادة، عند دار عمّها وزوجته، اللذين استقبلاها بحفاوة كبرى. من هنا بدأت نسرين في تطوير علاقاتها الاجتماعيّة، بالتعرّف على صديقات زوجة عمّها من النساء الفلسطينيّات المغتربات، وبدأت الصراعات الشخصيّة للبطلة بالمعاناة من الغربة التي استوطنت روحها، وافتقادها لأرض الوطن، والأهل في الأردن، والشعور بالندم بالهجرة الى شيكاغو.
نجحت الكاتبة في تصوير خلجات المشاعر، وبث الأحزان والحسرة على الغربة التي حلمت بها وظنّتها الجنّة المفقودة. ظهر هذا الصراع في الحوارات الذّاتيّة المتعددّة التي أجرتها الراوية مع نفسها، كما ورد صفحة 173 ” لا نعرف قيمة الأشياء، إلا حين نفتقدها، هناك دومًا مغرية لنا، حين نفترق منها نبحث عن هناك أخرى”.
يبدو أنّ الصراع الدّاخلي مداهم بشكل دائم لنفس الراوية نسرين، ” تيقّنت أنّ الأحلام تموت في بلاد الغربة، كنت في صراع عنيف” صفحة 60، هنالك نماذج عديدة للحوار الذّاتي الذي أغنى الرواية من حيث التشويق والتماهي مع البطلة. لم تكتفِ الكاتبة بوصف المعاناة من الغربة، بل تطرّقت بوصفها فقدان الهويّة والانتماء للوطن في بلاد الأحلام، كما ذكرت “دايمًا بشعر بالغربة وين ما رحنا، “أشعر كأنّني في سجن مفروش بأثاث فاخر” صفحة 174. كذلك أوردت حوارًا ذاتيًّا حول الانتماء للوطن وفقدان الهويّة من صفحة 11-113. ” مش سهل الاحتفاظ بالهويّة واللّغة في بلد ثاني بيختلف في عاداته وتقاليده ودينه وأخلاقياته” صفحة 172.
استقت الكاتبة عنوان الرواية ” هناك في شيكاغو” باختيارها الموَفّق، عندما ذكرت “هروب إلى هناك” قصدت بكلمة هناك بلاد الغرب. القصد شيكاغو كما ورد صفحة 96. “كذلك لكل اللذين يحلمون في الهجرة لوطن غير موطنه، الحلم نحو هناك”.
من الممكن الاستدلال على زمن الرواية، من خلال أحداث سبتمبر التي تشير إلى أن وقائع الرواية حصلت تقريبا بين الأعوام ما بين عام 1995- 2001 . كذلك المكان تمركز ما بين الأردن وشيكاغو.
تحلّت الكاتبة بلغة شاعريّة سلسة جدّا، بليغة مُطعّمة بالمُحسنات البديعيّة الجميلة، الصنعة اللّغويّة الطاغية في نصوص الرّواية والتي أضافت رونقًا لها، وتسلسل السرد برتابة وتصوير الأحداث بشكل، لدرجة تجذب القارئ للاستمراريّة بالقراءة، كعرض فلم سينمائي، بحيث تكون الأحداث فيها مُصوّرة ومُجسّدة بطريقة دراميّة.
مأخذي البسيط على المبالغ فيه بالمصطلحات البديعيّة، مما أعاق على تطوّر الأحداث بوتيرة أسرع، كذلك تمّ استخدام اللّغة العاميّ في بعض الحوارات للتعريف البسيط باللهجة الفلسطينيّة، وإضفاء بعض الواقعيّة على الحوارات.
تبدو العاطفة طاغية جدًّا أثناء سرد الأحداث، فظهرت العواطف بكافّة المشاعر، منها مشاعر الفرح والحب الرومانسي، ومشاعر الامومة، ومشاعر الانتماء والحنين للوطن، كذلك مشاعر الحزن والاكتئاب، مشاعر الحزن من الفقدان، وفراق الأهل. أبدعت الكاتبة في تصوير المشاعر الجيّاشة، خاصّةً مشاعر الراوية نسرين أثناء سرد الحوار الذّاتي، بالإضافة لتصوير مشاعر الآخرين من أبطال الرّواية. كما ورد صفحة 209 ” كنت أتحدّث بهستيريا غريبة، أضحك بشدّة بلا سبب كأنّ الجنون أصابني”
استطاعت الكاتبة هناء عبيد من وصف المعاناة التي تواجه النساء العربيّات المغتربات؛ لكونها امرأة، وتعيش بالغربة، أُتيحت لها الفرصة في الغوص بمعرفة مكنونات النساء ومشاكلهن الخّاصّة، والاطّلاع على خلجات مشاعرهن، لا شك أنّه لا يستطيع التعبير عن مشاعر المرأة إلّا المرأة نفسها. اعتقد بأنّ هذا العمل يُعتبر لصالح الرواية والكاتبة معًا. من النماذج لمعاناة النساء؛ زواج الرجال العرب المغتربين من نساء أجنبيّات؛ للحصول على الجنسيّة الأجنبيّة، وما يترتّب على ذلك من معاناة لكافّة الأسرة وخاصّة الزوجة
كذلك التلميح للنظرة لبعض الفتيات العربيّات اللذين نشأن أو ولدن في أمريكا، وكيفيّة انسجامهن مع العادات الأجنبيّة، ونظرة بعض الشباب لهن بنظرة سلبيّة، كما لمّحت الكاتبة بذلك عندما تقدّم شاب عربي لخطبة البطلة نسرين، مفنّدًا رأيه بأنّ الفتيات في شيكاغو قد لا يُحسنّ تربية أبنائهن بطريقة صحيحة، ويُفضّل الزواج من فلسطينيّة؛ لترعى بيته وأبناءه في غيابه عن البيت. وكما هو من المُلفت للانتباه بأنّ معظم شخصيّات الرواية من النساء.!.
تطرّقت الكاتبة للنظرة والمعاملات السّلبيّة التي يلقاها المسلمون في الغربة، خاصّةً بعد حادثة 11 أيلول عام 2001 في منهاتن؛ وجدت الكاتبة مساحةً كافية للدفاع عن المسلمين، وتوضيح الأمور وعدم التعميم، وأنّ هذه الحادثة لا تتعلّق بالإسلام، بل الهدف منها تشويه صورة الإسلام، وعمل غسيل دماغ ضد المسلمين من قِبل الإعلام الغربي.
وصفت الكاتبة مدينة (ديربون) بأنّها مكتظّة بالمهاجرين العرب، لدرجة تظن فيها بأنّك موجود في بلد عربي مثل الأسواق، والمقاهي، واستخدام الأراجيل، والاكتظاظ السكّاني والتقاء الجيران. من هنا نلحظ المحافظة على الهويّة والانتماء والحفاظ على التراث الفلسطيني بشكل خاص، من حيث الملابس والمأكولات، والأغاني الشعبيّة، كما أوردت الكاتبة عددًا منها كأغاني العيد مثلا..
في هذه الراوية ألقت الكاتبة الضّوء على قضيّة بناء الأحلام عند العديد من الشباب والشّابات، والتطلّع إلى الهجرة من الوطن إلى بلاد أجنبيّة، واصطدام الأحلام مع الواقع الصعب؛ ما تقصده الكاتبة كما يقول المثل: بأنّه ليس كل ما يلمع ذهبًا. كما ورد صفحة 59 ” أيقّنت أنّ الأحلام تموت في بلاد الاحلام” صفحة اهتمت الكاتبة في عنصر التشويق من حيث: استخدام الخيال احيانًا، ودمجه بالواقع للأحداث في السرد، كما حبكت الحبكة بأسلوب فني يربط الخط الروائي، ممّا خلق التشويق للقارئ لمعرفة نهاية الأحداث
كانت النهاية للرواية مُرضية، بقيت مفتوحة متروكة لخيال القارئ..
خلاصة القراءة: تُصنّف هذه النصوص ضمن الجنس الأدبي الروائي الواقعي، نظرًا لتكامل عناصر الرواية المطلوبة.
هنيئًا للكاتبة هناء عبيد على إبداعها الروائي الأوّل، وأنتظر الإبداع القادم إن شاء الله.
صحيفة راي اليوم الالكترونية