كتب

«رهائن الغيب…» أرواح بلا حضور أصبحت مرآة للماضي

لطيفة زباري

يكشف الروائي البحريني أمين صالح في روايته «رهائن الغيب… والذين هبطوا في صحن الدار بلا أجنحة» (2004) عن معالم حي تعرضت سماته وملامحه للتغير والتحول عن طريق تقديم شذرات من قصصه وحكاياته. وأظهر فيها سطوة القدر الذي يطبع بصماته علينا، والصدف التي تلهو بنا لنقف عاجزين أمامها في جهل والتباس.

 

يمزج هذا العمل الذي تجري وقائعه في حي الفاضل – أحد الأحياء العريقة في المنامة – في عام 1963، بين السيرة الذاتية والرواية. وفيه يؤرخ الكاتب لزمن بيوت الطين والسعف، والأزقة الضيقة، والطرقات الهادئة، والذكريات والأيام التي راوغت فخاخ النسيان.

صاغ الكاتب روايته بأسلوب سردي ولغة شعرية متناغمة، مستعيداً مغامرات رجولية على عتبات المراهقة شهدتها طرقات تتبدل تضاريسها. وشهدت طرقات جمعت كريم، وزكريا، وعزوز، ونبيل، ومفتاح، فضلاً عن البطل حميد. وبمعيتهم زينب بآلة الخياطة التي تحيك بها القماش والأيام، وذكريات الأب المهاجر عقيل.

نسج صالح الرواية بلغة رشيقة، بمشاهد وأصوات وروائح تحيي الذكريات. وحرص على نشر قصص وحكايات من كان لهم الدور الأكبر في حياته، كأخيه حمزة، حيث رسم له في الرواية صورة أبوية، ليستعيد فيها مع القارئ التفاصيل الحسية لكلماته، وينشر فيها مدى وشدة حضوره، وما يمتلكه من سلطة الأخ الأكبر عليه.

يقول الراوي:

«أنظر وأتساءل عن تقمصات الكائن وتحولاته، عن إيوائه الأدوار وانتحاله للأدوار، عن الرحلة المجهولة في غابة المرايا حيث كل إقليم يسن شرائعه وعاداته، عن القدر الذي يترك آثاره أمامنا دون أن نراها، والصدفة التي تلهو لكي نلهو بها، عن نحن والآخرين والعالم… فلا أزداد إلا جهلاً والتباساً».

حكايات حي

تستدعي الرواية سيلاً من حكايات حي الفاضل، بمزيج من معتقدات وتقاليد قاطنيه، ونهضة سكانه بالتعليم، واختلافات معيشة عوائله، وشقاوة أبنائه في المدرسة و«الخرابة» والدكان. وهكذا، تقدم لمحات حول حياة الناس في فترة الستينات من القرن الماضي بأبعادها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وتروي قصص حب لم يكتب لها النجاح، ووعود أسدلت عليها أسمال الهزيمة.

واختار المؤلف أن يوثق في الرواية بعض الأحداث الحقيقية أو الواقعية، وأثراها بمشاعر الارتباط العميقة بالأماكن، مانحاً دلالات عميقة للأرض والفضاء والزمان، بأبعاد وجودية تفرض نفسها على الشخصيات.

لقد عاد المؤلف كتابة الماضي بما يشبه النصوص السيرية، كتناوله عنف الفتى سلطان، وعقاب عقيل، ولقاءات سنان عازف الساكسفون، وحادثة العامل الباكستاني، مستحضراً معها، في سياقات أخرى، الحكايات والخرافات الدارجة آنذاك عن الجن والعفاريت.

وأسهمت هذه الذكريات في إظهار جوانب معينة من ماضي الكاتب/ البطل، وبناء جوهر شخصيته وتحديد هويته، حيث تطرق لوقائع وشخصيات مهمة مرت على تاريخ حي الفاضل، بما فيه من فرح وألم على حد سواء، ليصور مشاعر الحنين لأيام مضت، ويوقد ألم الفقد الذي يخلفه رحيل الأشخاص والأماكن.

تلهب «رهائن الغيب» الحنين إلى ذلك الحي ببيوته وطرقاته وناسه، وتثير التساؤلات في ذهن القارئ «أهو مجرد حنين؟ وهل تلك الأرواح التي كانت بلا حضور أمست الآن المرآة التي نستعيد من خلالها ذكريات ذلك الماضي؟».

* كاتبة بحرينية

صحيفة الشرق الأوسط اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى