رواية باولوث: فوتوغرافيا العنف الثوري
على خلفية فضّ اعتصامي رابعة العدوية والنهضة لأنصار الرئيس المصري السابق محمد مرسي، تعيد رواية «باولو» دار التنوير استعادة محطات أساسية للثورة المصرية، والصراعات الداخلية المشتعلة حينذاك منذ 2011 من خلال مصور فوتوغرافي نشط بين الدوائر الثقافية في وسط القاهرة من خلال التفريغ الكامل لمدونة «الأسد على حق».
يكمل الروائي والشاعر المصري يوسف رخا ما بدأه في روايته السابقة «التماسيح» التي شهدت النهايات المأساوية للأبطال الثلاثة الذين أسسوا في عام 1997 جماعة شعرية سرية عرفت بالتماسيح في اللحظة ذاتها التي شهدت انتحار المناضلة الثورية رضوى عادل «أروى صالح». هكذا حاولت التماسيح استعادة سلسلة من الأحداث المؤلمة للمجتمع المصري ككل خلال مرحلة تسعينات القرن العشرين من خلال التركيز على الفعل الشعري.
في «باولو” تبدو الأحداث كلها رهينة الواقع المؤلم والانكسارات المتتالية التي أصيبت بها الثورة المصرية. تدور الرواية حول شخص يُدعى «عامر محمد جلال أبو الليل بغاغو» والشهرة باولو يعمل مصوراً فوتوغرافياً، ويدير مكتبة «أزمنة» بحي المنيرة في وسط القاهرة. وبمجرد الدخول إلى عالم الرواية يبدأ باولو في سرد مجموعة من الأحداث والوقائع عن المجتمع المصري منذ الحراك الثوري في 2011 بأسلوب سردي متقطع يشبه البازل الروائي.
ولا يلبث القارئ أن يُصاب بحالة من الدهشة الشديدة عندما يجد أن باولو نفسه يعمل عميلاً مزدوجاً؛ ينخرط في أوساط الثوار ويتأثر بالثورة منذ مشاركته الأولى في جمعة الغضب، وهو في الوقت ذاته يتعاون مع المباحث والشرطة المصرية بهدف تقديم معلومات وتقارير تخصّ بعض الأفراد المشاركين في العمل الثوري. هكذا تفرض شخصية الراوي باولو نفسه بكل تناقضاتها واضطرابها على ذهن المتلقي. في لحظة يجعل المتلقي يتعاطف معه قبل أن يهدم على رأسه جدران المعبد، ويجعله كارهاً له بل وساخطاً عليه أيضاً. إن شخصيات هذا العمل تتضافر بشكل مربك مقصود كأن الكاتب حاول من خلال هذا النمط السردي أن يحطم كل التكهنات والنتائج المسبقة التي قد يستنبطها القارئ في فقرة من الفقرات. ممّا يجعل السرد هنا تركيبة فنية موازية للحبكة الروائية.
وإذا كانت رواية «التماسيح” قد ركزت على الشعر فإن «باولو” تركز على الصورة الفوتوغرافية. فباولو لديه شغف حقيقي بالتقاط صورة مثالية للحياة، وهذه الصورة المثالية تظل رهينة لحظاته المقهورة التي يخوضها. فعندما يتعرف باولو على «فريدة» موديل الإعلانات التي تتعرى، يظل مشغولاً بالتقاط صورة مبهرة لها تعادل جمال جسدها الأنثوي. ومع الفتاة الأخرى «مون» يتحول شبقه الجنسي إلى محاولات فاشلة لتأطير صورتها في مخيلته.
يمرّر باولو أحداث الرواية على مهل كمن يمرّر خيطا رفيعا داخل إبرة خياطة، يسحبك بهدوء إلى عالمه المتناقض الذي يفيض بالعنف والكراهية واللامبالاة والاضطراب والهوس ثم يجعلك تسقط على الأرض فجأة من أثر الصدمة. إنها رواية التفاصيل العنيفة والرغبات المكبوتة المرتبطة بالأحداث السياسية التي بدأت في الاشتعال منذ 2011 حتى فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة. يلعب باولو دور الزعيم السري للثورة المصرية، ويفضح كل الأطراف التي شاركت فيها من جماعات الإسلام السياسي، والناصريين، وكذلك اليساريين. لقد أدرك باولو في لحظة بعينها انحراف المسار الثوري عن خطه المستقيم، وبات قنوعاً أن مسألة فشل الثورة مسألة وقت لا أكثر. ومع هذا الكم من المشاهد العنيفة التي يتلقاها القارئ يبقى السؤال شاخصاً: هل جرائم باولو مقصودة أم مجرد رد فعل ساذج ونية سليمة؟
ما بين التدوين والتصوير والشعر يختار رخا أن يصهر كل هذه العناصر معاً في قالب روائي كابوسي يشبه إلى حدّ كبير واقع العيش في أغلب مجتمعات الربيع العربي. ويُلاحظ أيضاً أن النصّ تمت كتابته دون تدقيق أو تصحيح لغوي متعمّد لأنه اختار منذ البداية أن تكون اللغة المكتوبة ديمقراطية (مزيج الفصحى والعامية) تشبه إلى درجة كبيرة واقعنا المؤلم.
إن باولو شخصية مركبة تمثل بشكل أو بآخر نموذج المثقف المهزوم الذي تبخرت كل أسلحته من بين أصابعه، وأصبحت شعارات الحرية التي ينادي بها محض وهم هامشي في متن مجتمع بائس. وبالرغم من أن الحكاية الأم مرتبطة بمركزية العاصمة القاهرة إلا أن أطراف الحكاية تمتد لتصل قرى فقيرة وعشوائيات على طول الطريق الزراعي بين القاهرة والإسكندرية، ويروي من خلالها باولو كيف عاش هؤلاء المواطنون كأنهم على هامش الحياة بلا حقوق أو واجبات أو أدنى معرفة بنمط الحياة الاستهلاكية في أماكن العاصمة الراقية، ويتساءل في قرارة نفسه: كيف يمكن لهؤلاء الأفراد الذين عاشوا في هذا المحيط الضيّق الذي لا يتجاوز غرفة واحدة بسقف من القش التي يتسرب من خلالها المطر كخيوط رفيعة أن يدرك معنى الرفاهية والمستقبل؟
لقد أسهمت هذه البيئة المضطربة في تكوين شخصية باولو الذي يتحوّل في النهاية إلى قاتل يبرر عنفه من حين إلى آخر، ويتلذذ بتعذيب أقرب الأشخاص إليه، وكذلك قطه المسكين «عتريس» بعد أن يحرضه استسلامه التام. يقول باولو «لقد فكرت أن السهد كحّل جفوني فعلاً وأنا أمسح الكاتر بقطنة مغموسة في السبرتو وأزيح الفرو الأسود عن مساحة سنتيمترين أعلى بطن عتريس بإصبعي. كنت حزيناً من استسلامه هذا. شعرت أكثر من العادة وكأني أب يعطي ابنه الدواء. لكن قبل ما أبدأ حلفت له إن الوجع سيكون أشد من أي مرة سابقة وأنا أطبطب على رأسه الصغيرة وأحبس الدموع في عيني على صوت عبدالوهاب…».
يمكن القول إن باولو أشبه بروزنامة كتبت بخط أسود خفيف لمجموعة من الأحداث والمرويات التاريخية في أسلوب درامي تغلب عليه السوداوية. لكنها في الوقت ذاته تعيد رسم مفاهيم أساسية حول الواقع المعيش، والكلفة المضافة للفعل الثوري منذ نبضه الأول من خلال حساب المسافة بين تطلعات الأعداد الهائلة من الشباب التي انطلقت في الشوارع وكيفية تعامل الحكومات معهم لاحقاً.
لقد حاول رخا أن يقدم لعبة سردية مثيرة تتناول الثورة بمفهومها الأوسع بكل ما يتصل بها من عنف وضغوط وحريات ناقلاً معه الخارطة السردية من مربّع الشعر والعلاقات الغرامية إلى الثورة والفوتوغرافيا المغدورة. في أحد المقاطع يقول الأسد موجهاً كلامه إلى باولو «ولما صارت الرؤيا ورجع باولو للثوار قال الأسد ألم أقل لك إنهم يهلكون. وعرف باولو في قلبه أنه ينتصر على ابن آوى ويصنع صورة للمرأة التي عرفته مثلما عرفها وأن الرؤيا يتحقق تعبيرها…». وهكذا يغلق الستار على الجزء المضاف من حاوية التماسيح.
مجلة الجديد اللندنية