كتب

رواية “الجهل”.. هل يمكن العودة لوطن لم يعد موجوداً؟!

مظفر حبيبوليف

يعد ميلان كونديرا، المولود في برنو، فيما عُرف آنذاك بتشيكوسلوفاكيا، عام 1929، من بين الكُتاب الأكثر بصيرة واستبطاناً في القرن العشرين. تتميز رحلته ككاتب وشاعر وأستاذ جامعي بتفاعل عميق مع الموضوعات الوجودية، وتعقيدات المشاعر الإنسانية، والمناظر الطبيعية الاجتماعية والسياسية في عصره. كان لخيبة أمل كونديرا من النظام الشيوعي في بلده ونفيه إلى فرنسا عام 1975، تأثير عميق على كتاباته ونظرته الفلسفية. تعكس أعماله، التي غالباً ما يتم وضعها على خلفية أوروبا الوسطى خلال الأوقات المضطربة خلال القرن الماضي، نظرة ثاقبة للحالة الإنسانية، واستكشاف موضوعات الذاكرة والتاريخ والبحث عن الهوية الشخصية والجماعية.

 

رغم أصوله التشيكية، أصبح كونديرا مواطناً فرنسياً في عام 1981 وبدأ الكتابة باللغة الفرنسية، ما زاد من إثراء سرده ومدى وصوله الموضوعي. وقد تم الاحتفاء برواياته، بما في ذلك “كائن لا تحتمل خفته”، و”الحياة في مكان آخر”، و”الجهل”، من بين روايات أخرى، لعمقها وروح السخرية وأسسها الفلسفية. تمتد مساهمة كونديرا في الأدب إلى ما هو أبعد من رواية القصص؛ إنه مفكر وفيلسوف يستخدم الشكل السردي كوسيلة لاستكشاف المعضلات الوجودية للحياة الحديثة والتشكيك فيها.

كان أول لقاء لي مع كونديرا في رواية “الجهل” التي تدور أحداثها الرواية حول مهاجرين تشيكيين، إيرينا وجوزيف، اللذين يعودان بعد أن أمضيا عقوداً من الزمن في الخارج إلى وطنهما، بعد أن هربا منه في أعقاب الغزو السوفييتي لتشيكوسلوفاكيا في عام 1968. وتصبح عودتهما، التي اتسمت بمزيج من الترقب والخوف، تأملاً عميقاً في طبيعة الحنين إلى الوطن والسعي بعيد المنال للانتماء.

تدور أحداث رواية “الجهل” بين باريس، حيث عاشت إيرينا طوال العشرين عاماً الماضية، وبراغ، الوطن الذي تركته وراءها. من ناحية أخرى، يجد جوزيف نفسه عائداً من الدنمارك. تلتقي رحلات عودتهما إلى الوطن، التي كانت مدفوعة بوفاة والدة إيرينا وتقاعد جوزيف، على التوالي، في براغ، ما يمهد الطريق لسرد ينسج بدقة التواريخ الشخصية مع التغيرات الاجتماعية والسياسية الأوسع في وطنهم.

أثناء تنقل إيرينا وجوزيف في شوارع براغ، يدركان أن الوطن الذي يتذكرانه قد تغير تماماً كما حدث بالفعل. تبدو مدينتهما، التي تعج الآن بطاقة التحول ما بعد الشيوعية، غريبة بالنسبة لهم، ما يؤكد الموضوع الرئيسي للرواية: التنافر بين الذاكرة والواقع الحاضر، بين موطن الماضي ووطن الحاضر.

إن البنية السردية لـ رواية “الجهل” هي في جوهرها كوندرية، حيث تستخدم جدولاً زمنياً غير خطي يتنقل بين الحاضر وذكريات الماضي المختلفة. تتيح هذه التقنية لكونديرا التعمق في نفسية شخصياته، والكشف عن أعمق أفكارهم ومخاوفهم ورغباتهم. تصبح الرواية لوحة يرسم عليها كونديرا تعقيدات العودة إلى مكان موجود في الذاكرة بشكل أكثر وضوحاً منه في الواقع، مستكشفاً الاعتراف المؤلم بأن المرء لا يستطيع حقاً العودة إلى وطنه مرة أخرى.

في قلب الجهل يكمن موضوع الحنين إلى الوطن، وهو شوق عميق لبيت تغير إلى درجة لا يمكن التعرف عليه أو ربما لم يكن موجوداً أبداً بالشكل المثالي الذي تحتفظ به الذاكرة. إن استكشاف كونديرا للحنين إلى الوطن لا يتعلق فقط بالتفكك الجغرافي، بل يتعلق بالسعي الوجودي للانتماء والهوية في عالم سريع التغير.

الحنين إلى الوطن، كما يرسم كونديرا  في رواية الجهل، متعدد الأوجه. إنه ليس مجرد الشوق الجسدي للوطن، بل أيضاً الشوق العاطفي والنفسي العميق للإحساس بالمكان والألفة والمجتمع الذي تركوه. لذلك، نرى كيف سيعاني إيرينا وجوزيف، خلال عودتهما إلى براغ، من الحنين إلى الوطن باعتباره مزيجاً معقداً من الحنين والعزلة والارتباك. ذكرياتهم عن براغ، المشبعة ببراءة وبساطة سنوات شبابهم، تتعارض مع واقع المدينة التي مضت بدونهم.

وكعادة كونديرا الجرأة والبراعة يقارن بين الحنين إلى الوطن ونقيضه: الرغبة في الهروب، أو مغادرة وطن المرء بحثاً عن الحرية أو حياة أفضل. يسلط هذا التجاور الضوء على سخرية الحنين إلى وطن الذي اختار المرء أن يغادره، ما ربما يكشف عن النزعة الإنسانية المتأصلة في تمجيد الماضي والتغاضي عن أسباب الرحيل.

تستكشف الرواية أيضاً فكرة أن الحنين إلى الوطن قد يكون في بعض الأحيان يتعلق بالشوق إلى نسخة من الذات التي كانت موجودة في زمان ومكان مختلفين بعيد عن الحاضر المضطرب. فنجد بالنسبة لإيرينا وجوزيف، لا تمثل براغ موقعاً ماديا فحسب، بل تمثل مشهداً من الذكريات، ومستودعاً لذواتهم الأصغر سناً، والأحلام والتطلعات التي كانوا يحتضنونها ذات يوم. تؤدي عودتهم إلى مواجهة مع مرور الوقت، والتغيرات داخل أنفسهم، وإدراك أن الشعور بالانتماء الذي يبحثون عنه ربما لم يعد ممكناً تحقيقه.

يمتد علاج كونديرا للحنين إلى الوطن إلى ما هو أبعد من الجانب الشخصي ليتأمل في التجربة الجماعية لأمة تمر بتغيرات اجتماعية وسياسية كبيرة. لقد أصبحت جمهورية التشيك، التي خرجت من ظلال الشيوعية، رمزاً للبحث الأوسع عن الهوية والمكان في أوروبا ما بعد الحرب الباردة. من خلال عدسة الرحلات الشخصية لإيرينا وجوزيف، يعلق كونديرا على السعي العالمي للجذور والتواصل في عالم يتسم بالنزوح والتغيير.

عند مقارنة تصوير كونديرا للحنين إلى الوطن بأعمال أدبية أخرى، يمكن للمرء أن يأخذ بعين الاعتبار روايات مثل “رواية حيث أجد نفسي” جومبا لاهيري، والتي تتناول بالمثل موضوعات الهوية، والمنفى، وتعقيدات التنقل بين ثقافتين. ومع ذلك، فإن عدسة كونديرا الفلسفية الفريدة وأسلوبه السردي يجلبان عمقاً مميزاً لاستكشاف الحنين إلى الوطن، ما يجعل “الجهل” عملاً أساسياً في أدب النزوح.

في رواية “الجهل”، يصوغ ميلان كونديرا شخصيات إيرينا وجوزيف بعمق يسمح باستكشاف دقيق للحنين إلى الوطن وتأثيره المتعدد الأوجه على الفرد. كلتا الشخصيتين، على الرغم من خلفياتهما وأسبابهما المختلفة لمغادرة تشيكوسلوفاكيا، مرتبطتان بالتجربة المشتركة المتمثلة في العودة إلى وطن لم يعد يبدو وكأنه وطن لهم. من خلال قصصهم، يتعمق كونديرا في التعقيدات النفسية والعاطفية لمواجهة ماضي المرء، والتغيرات داخل نفسه.

عربي بوست

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى