روجيه غارودي: موت رجل شجاع ..في الثامنة من صباح الأربعاء 13 حزيران/ يونيو 2012، وفي منزله الكائن في “شينفيير سور مارن” جنوب شرق باريس، رحل الكاتب والفيلسوف الفرنسي الكبير روجيه غارودي عن 98 عاماً، قضى معظمها مهموماً (إنتاجاً ونشراً) بالفكر السياسي والديني والفلسفي والحضاري والنقدي..إلخ. وكان في ذلك كلّه صاحب ذهن متّقد، وذاكرة حّية، ذات قدرة هائلة على تحقيق أفضل التقابل الموزون بين الواقع والمثال، والنسبي والمطلق، والأيديولوجيا ونقيضها، والظاهر والباطن.. هكذا دونما خلط في المفاهيم أو فساد في المنهج.
في مطالع الثمانينيّات من القرن الفائت، ملأ روجيه غارودي الدنيا وشغل الناس، وبخاصة بعد إشهاره إسلامه واتخاذه قراراً جريئاً بتحدّي النفوذ الصهيوني داخل أوروبا والولايات المتّحدة، وذلك من خلال أمرين اثنين، أولاهما نشره بياناً في صحيفة “اللوموند” الفرنسية (عدد 17 يونيو1982) يدين فيه مجزرة صبرا وشاتيلا التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية المحتلة للبنان وقتذاك. وثانيهما إصداره كتابه الشهير في ما بعد بسنوات: “الأساطير المؤسّسة للسياسة الإسرائيلية (1996)، والذي يشكّك فيه غارودي بحصول المحرقة اليهودية (الهولوكوست) على أيدي النازيين، ما جعل المنظمات الصهيونية في فرنسا، وعلى رأسها منظمة ليكرا LICRA، تستنفر عليه كبرى الأجهزة الإعلامية والقضائية، ويحاكم على السريع بتهمة العداء للسامية ويصدر قرار بسجنه ثلاث سنوات مع وقف التنفيذ. ولم يقتصر الأمر على ذلك، فقد كان غارودي يتلقى، ويومياً، عشرات المكالمات الهاتفية التي تهدّده بالقتل والسحل… كما تمّ الاعتداء على كلّ المكتبات التي كانت تبيع كتبه في فرنسا وسويسرا وألمانيا واليونان.
انتهاء أوروبا
ألّف غارودي أكثر من سبعين كتاباً معظمها كان مثيراً للجدل، ويطرح إشكالات ساخنة ومتفجّرة، وفي الطليعة بينها كتابه: “الإرهاب الغربي”، وهو في تسعة فصول، يتحدث في أولاها عن “الغرب كعارض تاريخي”، ويعالج أسطورة “الاستثناء العبري” و”أسطورة المعجزة الإغريقية” و”الأسطورة اللاتينية”. ويتحدث في الفصلين الثاني والثالث عن القطيعة الكبرى: يسوع المسيح والانحرافات التي حدثت في المسيحية، وفي الفصل الرابع عن “النهضة الأوروبية وولادة الوحوش”. وفي الفصل الخامس يثبت المؤلف “أننا نحن البشر من الممكن أن نعيش بشكل آخر”. ويعالج في الفصل السادس “جيويوليتيك القرن العشرين” ويفضح جريمة عدّت “مذهباً دينياً” هي جريمة “السوق الواحدة” التي تتحول معها أوروبا إلى مجرد خادم. ويطرح في الفصلين السابع والثامن تصوراً لـ “جيوبوليتيك القرن الحادي والعشرين” وبديلاً إنسانياً عن العولمة الأميركية عبر حلولٍ ملموسة.
أما الفصل التاسع فيكاد يكون سمفونية شعرية يطرح فيها غارودي “الأسئلة ما قبل الأخيرة” ويشكو من خواء الفنّ والإبداع الذي غدا “خزّافاً من دون خزف وملكاً بلا مملكة”.
ويختزل غارودي بنفسه كتابه “الإرهاب الغربي” بهذه الجملة: “إن الإرهاب عمل يقوم به الغرب نفسه وتهمة باطلة يرمي بها ضحاياه”. وعلى ذلك يعقب المفكّر الأميركي جون غاردنر قائلاً “إن غارودي أصيب على ما يبدو بلعنة عُقد مفكري العالم الثالث واتهاماتهم الجاهزة للغرب بكلّ ما يؤدّي إلى تهافت عجزهم وقصورهم الحضاري”.
وغارودي كان يحذر على الدوام من “انتهاء أوروبا” كاتحاد سياسي مستقل.. لا بل إن هذا الاتّحاد لم يعد في رأيه اليوم “سوى محطة استراحة للهيمنة الأميركية على أوروبا القديمة كلّها”. وعليه فمن الضروري بعد ذلك لفرنسا “قطع كلّ الصلات مع المؤسّسات الدولية التي هي ليست إلا أدوات هيمنة أميركية: حلف الناتو، صندوق النقد الدولي، البوليس الأوروبي الموحد، العدالة الأوروبية الموحدة..إلخ. حيث يتمّ إبرام 70% من القوانين الفرنسية اليوم خارج فرنسا”.
كما دعا غارودي إلى خروج فرنسا من حلف الأطلسي والاستقالة من الاتّحاد الأوروبي وهذا لن يؤدّي- في رأيه طبعاً- إلى عزلتها.. “بل على العكس، سيؤدّي ذلك إلى تحرير فرنسا من كلّ ما يكبّلها ويقيّدها ويمنعها من إقامة علاقات حرة مثمرة ومستقلة مع بلدان العالم الثالث المهدّدة، مثلنا تماماً، بالعولمة”.
جائزة الملك فيصل
وروجيه غارودي الذي كان نال جائزة الملك فيصل العالمية سنة1985 بسبب “خدمته للإسلام”، وتسليطه الضوء على قيمه العادلة المتسامحة، وبخاصة من خلال كتابه: “وعود الإسلام”، و”الإسلام يسكن مستقبلنا”، كان أول مفكر وفيلسوف غربي حديث يدعو إلى حوار بين الحضارات. وقد ألّف كتاباً في هذا الخصوص عنوانه “من أجل حوار الحضارات”- 1977، رأى فيه أن الحضارة الغربية باتت في مأزق خانق وكبير؛ ولا سبيل أمامها لتجاوزه إلا بالانفتاح الجدّي على الحضارات الأخرى و”التحاور معها والتعلّم منها لاكتشاف الفرص المفقودة والأبعاد الإنسانية والأخلاقية المطلوبة التي نمت في الحضارات والثقافات غير الأوروبية”.
وغارودي الذي كان اعتنق الإسلام بعد مروره بالماركسية والمسيحية (الكاثوليكية منها والبروتستانتية)، وقف في المحصلة على الضدّ من الأصوليات الدينية وغير الدينية المتزمتة؛ لا بل وجدها خطراً على الأديان السماوية نفسها، بل وخروجاً عنها، بوعي أو من دون وعي.
صحيح أن هناك أصولية إسلاموية متزمتة (من وجهة نظره) لكن هناك في المقابل أيضاً، أصوليات مسيحية ويهودية هي أدهى وأخطر بكثير ممّا يظن كثيرون؛ وهي من يحرّض على الحروب والتوسع ونشر الفتن في العالم الإسلامي. ويردف غارودي “إن الهجمة العاتية على الإسلام يجب ألا تنسينا خطورة الأصولية اليهودية التي استخدمت النصوص التوراتية من أجل خلع المشروعية الدينية على المخطط السياسي الصهيوني الهادف إلى احتلال فلسطين وإقامة دولة إسرائيل؛ كما لا ينبغي أن ينسينا الدور الذي تلعبه الأصولية البروتستانتيه في الولايات المتّحدة حالياً”.
هكذا، فالاستغلال السياسي للدين، في رأي غارودي، ليس حكراً على العرب أو المسلمين، وإنما يشمل أيضاً المسيحيّين واليهود. ولذا فلكي نفهم الظاهرة الأصولية بشكل صحيح، فإنه ينبغي علينا أن ندرسها من خلال منظور مقارن واسع يشمل كلّ الأصوليات أياً تكن. ولا ينبغي أن نحصر أنفسنا بالتالي داخل إطار أصولية واحدة.
تعليقات على إسلامه
لم يكن إسلام غارودي بعيداً من النقد العربي، ومن طرف مفكرين كبار على المستويين الديني والأيديولوجي العام. فهذا المفكّر المصري الكبير د. زكي نجيب محمود (رحل في العام 1993) يرى بعد تقديره لغارودي تقديراً عالياً بأنه “لا شيء يمنعني من ملاحظات أبديها وأولها، أنني كنت أتمنى لإسلامه أن يجيء على أساس العقيدة ذاتها، لا على أساس “الحضارة”، لأنه إذا كان من الأسباب التي دفعته إلى اعتناق الإسلام، ما وجده من نقص جوهري في “حضارة”، الغرب، إذ وجد أنها حضارة بلا هدف، فهي تخلق في الناس حاجات لم تكن بهم من قبل، ثم تعمل بعد ذلك على إشباع الحاجات بما تنتجه الآلات؛ دون أن يؤدي ذلك إلى الارتقاء بالإنسان من حيث هو إنسان، فماذا لو لم يكن في حضارة الغرب مثل هذا النقص؟… واضح أن النتيجة هنا ستكون أن غارودي سوف لن يجد ما يدفعه إلى الإسلام”.
وللدكتور فؤاد زكريا(رحل في العام 2010)، المفكر العقلاني المصري رأيٌ في إسلام غارودي يقول “إن إسلام هذا المفكّر الفرنسي الكبير هو إسلام المثاقفة فقط.. المثاقفة المنحوتة من دون تفاصيل إيمانية عميقة. وإن كانت تطلع هذه الإيمانية أحياناً من قلب نبش عبقري لغارودي في الجوهر القرآني والتاريخي للإسلام ومحاولته الإسهام في إطلاق قيمه من جديد”.
وفي سياق التعليق على إسلام غارودي يرى الشيخ د. محمد سعيد رمضان البوطي “أنه ليس من المعقول أن ننتظر من منظِّر ماركسي كبير أن يتحوّل إلى منظِّر إسلامي كبير. لكن إسلام روجيه غارودي ليس عاطلاً، على الرغم من أنه في فهمه للدين الحنيف يخطىء وتعوزه أحياناً المعرفة الكافية. لا بدّ من قبوله كمسلم ومؤاخذته على أخطائه ونقدها حين يخطىء”.
صورة عن قرب
كلّ من عرف روجيه غارودي عن قرب، كان يجد فيه إنساناً ندّاً حتى لنفسه، قوياً عصياً على العصبيات والغرائز. وكان أخوف ما يخافه هو أن تُطمس الحقائق بقوّة الأمر الواقع والنفوذ الطاغي للسياسة والإعلام، فحوصر وضُرب، لكنه لم يفقد يوماً شجاعة المواجهة الفردية، اليقينية مهما كانت فداحة النتائج. باختصار لقد انتفض غارودي ليؤسّس خلاص الإنسان الأوروبي، و العالمي، ويخلع احترامه على الجميع.
وإلى جانب جدّيته وصرامته، كان الرجل يتمتع بروح مرحة، فكهة وساخرة جداً، إنما من غير تجريح أو تلويث.
ووراء “كبريائه” المعرفية، كان غارودي يخفي شخصية مؤدبة جداً، ومتواضعة جداً، تتجاهل آلامها لتعالج آلام الآخرين. وبخلاف الأوروبيّين، والغربيين بعامة، كان يصرّ حين يستقبلك في بيته على أن تشاركه طعام الغداء أو العشاء.. ويمنحك من وقته الساعات الطوال، خصوصاً إذا كنت من قارئي كتبه ومناقشي أفكاره في الصميم.