روحاني و«المرحلة الخاتمية» (ربيع بركات)
ربيع بركات
كانت لافتة الزوبعة التي أثارها البعض حول شهادة الدكتوراه الخاصة بالرئيس الإيراني الجديد حسن روحاني. شكك الإعلام المضاد بحيازته الشهادة من جامعة «غلاسغو كاليدونيان» الاسكتلندية، فيما سلط الإعلام الرسمي وشبه الرسمي الأضواء عليها. فالشهادة تلك (التي ثبتت صحتها بحسب الموقع الرسمي للجامعة البريطانية) لها رمزية خاصة. والتلاقح الثقافي مع الغرب، مع ما له من دلالات سياسية، يذكر بطروحات الرئيس الأسبق محمد خاتمي وحقبته. لكن المرحلة الخاتمية تختلف إلى حد ما عن تلك التي يمثلها الرئيس روحاني اليوم. فمشروع روحاني، بالنسبة للمؤسسة الحاكمة في إيران، يبدو نسخة منقحة عن مشروع الرئيس الأسبق.
لم تكن ولايتا محمد خاتمي الرئاسيتان بين عامي 1997 و2005 مجرد تفوق للتيار الإصلاحي على مقابله المحافظ. يمكن القول إن التصنيف الثنائي المذكور شكل تجاوزاَ متهافتاً للتداخل الموجود بين المعسكرين وللتباين داخل كل منهما. ثمة قراءة للمرحلة الخاتمية، أقرب إلى الواقع، ترى أن الولايتين شكلتا محاولة تجديد من داخل «الاستابلشمنت» الحاكم. وهذه القراءة كانت تبرز وتختفي توازياً مع الظروف التي مرت بها البلاد، فسوّق لها الداخل والخارج على السواء مطلع الولاية الأولى للرئيس الإصلاحي، وتراجع عن القول بها كثيرون إبان «الثورة الخضراء» العام 2009 مع اتساع الشرخ على مستوى النخب والقواعد بين «الإصلاحيين» و«المحافظين».
في العامين الأولين لولاية خاتمي الأولى، شهد المجتمع الإيراني انفتاحاً مهماً على مستوى الحريات الاجتماعية والثقافية مع بروز إقبال شعبي أكبر على الحياة السياسية. ترافق ذلك مع دعوة خاتمي للتواصل مع الغرب العام 1998 معطياً لمبادرته طابعاً ثقافياً. وراجت إثر ذلك مقولته حول «حوار الحضارات» التي عاكست مناخاً عالمياً كان آخذاً بالتشكل مع صعود أسهم المحافظين الجدد في الولايات المتحدة وبزوغ نجم القاعدة عقب تفجيري نيروبي ودار السلام في العام ذاته. تلا ذلك نجاح عدد كبير من الإصلاحيين في الانتخابات البرلمانية والبلدية عامي 1999 و2000. ونتيجة المرونة التي أبدتها طهران، لم تقم واشنطن أو أي من العواصم الأوروبية بفرض عقوبات إضافية عليها. بل شهد العام 1999 رفع الحظر الأميركي عن الأدوية والمنتجات الزراعية وقطع غيار الطائرات المدنية، ثم سمحت واشنطن في العام التالي باستيراد السجاد وبعض المواد الغذائية من إيران. كان جس النبض متبادلاً. وبدا أن أياً من الطرفين لم يبلور استراتيجية ثابتة للتعامل مع الآخر. بل امتازت العلاقة بشيء من الدينامية الحذرة، وحرك كل منهما بيادقه على رقعتها بناء على مبادرات الآخر.
لكن مرحلة جس النبض انتهت مع أحداث الحادي عشر من أيلول والاندفاعة الأميركية التي أعقبتها، وهي التي بدأت بإعلان إيران جزءاً من «محور الشر» وانتهت بسعي واشنطن لإقامة «شرق أوسط جديد». سبق ذلك تضييق في الداخل الإيراني على إصلاحات خاتمي زاد منسوبه بعد الهيجان الأميركي. وأخذت قبضة الأمن في إيران تشتد إثر التحديات الجديدة التي وضعت النظام الإسلامي على فالق تهديد وجودي مع اجتياح كل من أفغانستان والعراق، والإطباق على إيران بين فكي مشروع امبراطوري وليد. وترافق ذلك مع قرار واشنطن بتشديد الخناق الاقتصادي بمنعها دول بحر قزوين من الاتفاق مع إيران على مد أنابيب لنقل النفط داخل أراضيها، مكبدة إياها خسائر بمليارات الدولارات، لكن من دون أن يجهز ذلك على ارتفاع معدلات النمو الاقتصادي الإيراني التي وصلت إلى 5,8 في المئة بين عامي 2000 و2003 وتخطت 6,5 في المئة بين عامي 2003 و2004.
غير أن نتائج سياسة الانفتاح والإصلاح التي انتهجها خاتمي، على إيجابياتها في ميداني الاقتصاد والحراك الاجتماعي الداخلي، بدت كما لو أنها تفتقر إلى الحساسية المطلوبة حيال تحديات الخارج التي وصلت إلى ذرى غير مسبوقة في عهد إدارة أميركية شديدة اليمينية. وظهر عليها شيء من الترهل جعل كثيراً من المراقبين يجزمون بأن الإدارة الحقيقية لمعارك الخارج كانت تتم من خارج دائرة الرئاسة ومن داخل الدوائر العسكرية والأمنية المحيطة بالمرشد الأعلى. ومع اتساع الفجوة بين متطلبات الداخل والخارج وإيلاء المرشد والدوائر المحيطة به أولوية للمسائل الاستراتيجية وقضايا الأمن القومي، طويت صفحة الإصلاحيين، وتبوء أحمدي نجاد موقع الرئاسة معلياً راية التحدي في مواجهة الضغوط الدولية وواضعاً إصلاحات خاتمي في الأدراج.
غير أن نهج الرئيس نجاد وصل إلى ختام صلاحيته بدوره، ولم يعد ممكناً السير على نفس منواله لسنوات قادمة. فتركُ الداخل يغلي ومناطحة الخارج من دون حساب له عواقب وخيمة. والقيادة الإيرانية تدرك ذلك جيداً. ولعل تجربة العام 2009 كانت عبرة لها ولمعارضيها على السواء. إذ إن وصول روحاني إلى الحكم بسلاسة مدعوماً من خاتمي وبقية الإصلاحيين شاهد على عدم رغبة القيادة الإيرانية باستثارة مشاكل داخلية. وهي لاقت بتجاوبها مع انتخابه قيادات إصلاحية في منتصف الطريق (خاتمي مثلاً كان قد دعا صراحة إلى تجاوز صدامات 2009 في خطاب له عام 2011)، فيما لا زال البعض ينتظر منها أن تلاقي قيادات أخرى (مرشحا رئاسة 2009 مير حسين موسوي ومهدي كروبي ما زالا قيد الإقامة الجبرية).
حسن روحاني، باختصار، إنتاج أكثر إتقاناً للخط الخاتمي من داخل المؤسسة الحاكمة وتسليمٌ منها بخلل يحتاج إلى معالجة، وهو محاولة جنينية للموازنة بين مقتضيات الداخل والخارج. ولعل خطابه الأخير أظهر هذه الوجهة بوضوح: فهو لا أغرقه بالايديولوجيا، كما درج سلفه نجاد على الفعل، ولا اختزل رؤيته بطوباوية ثقافوية، كما عاب البعض على خاتمي في السابق. وهو أبرز من خلاله تصوراً أقرب إلى البراغماتية والمرونة في العلاقة مع المجتمع الدولي، من دون أن يلين في ما يعتبره النظام ثوابت في الأمن القومي (البرنامج النووي تحديداً) والسياسة الخارجية.
الرئيس الإيراني الجديد دليل على محاولة النظام في بلاده التقاط اللحظة التاريخية التي تمر بها المنطقة وعلى مواكبة المتغيرات الضخمة وسيولة الأحداث الهائلة في المحيط، وهو يمثل الحاجة إلى إنتاج مجال أوسع للمناورة. والأمر الأخير يقتضي إراحة الساحة الداخلية وإعادة رسم خريطة العلاقات الخارجية لإيران، على نحو يميز بين العدو والخصم والمحايد والصديق والحليف، ويقرأ هذه الخريطة بكل أولوانها وتدرجاتها، ويتعاطى معها على هذا الأساس.
صحيفة السفير اللبنانية