روسيا تتصدَّر قائمة المُستثمِرين في منطقتنا العربيّة
أجمعت معظم التقارير على أنّ الصراعات الأمنيّة والسياسيّة التي بدأت مع “الربيع العربي” في العام 2011، وهي حاليّاً في عامها الثامن، أَنتجَت خسائر ماليّة واقتصاديّة كبيرة قُدرِّت بأكثر من تريليون دولار، وأصبحت تُهدِّد بإحداث تحوّلات في المشهد الاجتماعيّ والإنسانيّ والسياسيّ والاقتصاديّ، وقد تؤدّي إلى بروز” اقتصاد سياسيّ” إقليميّ جديد يُسهِم في تحديد علاقات الدول العربيّة مع القوى العالميّة في المرحلة القادمة، والتي ستشهد حركة استثمارات كبيرة في تمويل إعادة إعمار ما هدمته الحروب، والاضطّرابات الأمنيّة المتعدّدة والمختلفة الأهداف.
كيف ستُواجِه المنطقة التحدّيات المُرتقَبة، فيما دولها تعاني من تخلّفٍ في التنمية، والتكنولوجيا، وفقرٍ وبطالة مُزمنة ومتزايدة، وفجوات متّسعة بين الأغنياء والفقراء، إلى جانب الافتقار إلى الحرّيات السياسيّة، وغياب الخطط الإصلاحيّة المطلوبة؟
قبل صراعات “الربيع العربي”، وخلال الفترة 2005 – 2010 ، بلغ النموّ الاقتصادي في الدول العربيّة نحو 6 في المائة، وهي نسبة تعكس حالة البحبوحة الماليّة، نتيجة الاستفادة من فائض استثمارات النفط وارتفاع سعر البرميل. لكنّ هذا النموّ تراجَع الى 3.5 في المائة خلال الفترة 2011 – 2014، بسبب الاضطّرابات الأمنيّة والتطوّرات السياسيّة التي خلَّفت أضراراً هائلة بالبنية التحتيّة، ما أدّى إلى ارتفاع حاجتها الاستثماريّة من 450 مليار دولار إلى 700 مليار دولار. واستمرّ تراجُع النموّ في السنوات اللّاحقة بشكلٍ تدريجي، حتّى وصل في العام 2017 إلى أقلّ من 2 في المائة. وحذَّر “تقرير المخاطر”، الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالَمي، من تواصل الصراعات التي تعيشها دولٌ عربيّة مثل سوريا وليبيا واليمن والعراق، ووصفها بأنّها ” أكبر المَخاطر التي تهدِّد الاقتصاد العربي، ومن شأنها أن تقضي تماماً على النسيج الاقتصادي لهذه الدول، وتصيب دول الجوار بأضرارٍ اقتصاديّة جسيمة”. أمّا البنك الدولي، فقد أشار في تقرير “الآفاق الإقتصاديّة العالميّة” إلى أنّه ” إذا ما لم تتحقَّق التوقّعات بمسارٍ تصاعدي لأسعار النفط، وتصاعدت حدّة الصراعات، وكذلك اشتدّت أعمال العنف والإرهاب، فإنّ ذلك يُنذر بمَخاطر هبوط كبيرة تتهدّد النموّ في المنطقة”.
تمويل الإعمار
بدأت مؤسّسات التمويل الدوليّة باهتمام جدّي دراسة إمكانات تمويل إعادة الإعمار وتحديد مصادر هذا التمويل في ضوء استعداد عددٍ كبير من الشركات العالميّة، فضلاً عن شركات عربيّة خليجيّة، للدخول في ورشة تنفيذ المشاريع المطلوب تمويلها.
وفي سياق مؤشّرات متفائلة، رَسَم صندوق النقد الدولي صورة للعامَين الحالي والمُقبل، متوقّعاً ارتفاع النموّ الاقتصادي في المنطقة العربيّة إلى 3.4 و3.7 في المائة على التوالي. وعلى الرّغم من تفاؤل الصندوق، إلّا أنّه أشار إلى حاجة الدول المُصدِّرة للنفط إلى تمويل العجز المُتراكم الذي تتجاوز قيمته 294 مليار دولار خلال العام الحالي وحتّى العام 2022، فضلاً عن إعادة تمويل سندات دوليّة بـ 70 مليار دولار. أما الدول المُستورِدة للنفط، فهي تحتاج إلى تمويل العجز البالغ نحو 272 مليار دولار، وكذلك سندات دوليّة بـ 30 مليار دولار.
لا شكّ في أنّ تفاؤل الصندوق بتحسّن النموّ جيّد، لكن يبدو أنّ المعدّل المتوقَّع لا يزال بعيداً عن المعدّل المطلوب، والذي يتراوح بين 5 إلى 6 في المائة سنويّاً، كي تتمكّن أسواق العمل العربيّة من استيعاب العمالة الجديدة وتحقيق خفضٍ نسبي لمعدّلات البطالة، بخاصّة لدى الشباب وحاملي الشهادات الجامعيّة، حيث يرتفع المعدّل إلى ما يمثّل نحو أكثر من ضعفَي معدّل بطالة الشباب على مستوى العالَم، أي نحو 29.1 في المائة في العام 2017.
مناخ الاستثمار
مع الأخذ بالاعتبار أنّ المال جبان ويفتّش دائماً عن الأمن والاستقرار والاستثمار المضمون بنسبةٍ مرتفعة، فإنّ المنطقة العربيّة لا تزال تحتفظ بمَوقعها في المرتبة الرابعة عالميّاً بين 7 كتلٍ اقتصاديّة وتجمّعات جغرافيّة في مؤشّر “جاذبيّة الاستثمار”، الذي يقيس إمكانات 109 دول على جذب الاستثمارات الأجنبيّة، وتأتي بعد مجموعة منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية التي تحتلّ المرتبة الأولى، تليها دول شرق آسيا والمحيط الهادي في المرتبة الثانية، ودول شرق أوروبا وآسيا الوسطى في المرتبة الثالثة. ومن هنا تبرز أهميّة هذه المنطقة للاستثمار العالَمي، خلال السنوات المقبلة.
ولذلك يُلاحَظ أنّ الاضطّرابات الأمنيّة والسياسيّة لم تمنع تدفّق الاستثمار الأجنبي المباشر إلى المنطقة العربيّة. ووفق تقريرٍ صادر عن المؤسّسة العربيّة لضمان الاستثمار وائتمان الصادرات ومقرّها في الكويت، بلغ حجم تدفّق الاستثمار الوارِد إلى الدول العربيّة 28,7 مليار دولار في العام 2017، وشهدت أرصدة الاستثمار الأجنبي المباشر الوافدة إلى المنطقة ارتفاعاً إلى 871,3 مليار دولار، وبحصّة 2.8 في المائة من الإجمالي العالَمي البالغ 31,5 تريليون دولار. وقد استحوذت ثلاث دول (السعوديّة، الإمارات، مصر) على 54.2 في المائة.
واستناداً إلى قاعدة بيانات أسواق الاستثمار، أنشأت 637 شركة 809 مشاريع استثماريّة أجنبيّة جديدة في المنطقة العربيّة في العام 2017، وبكلفة تقدَّر بـ 70,6 مليار دولار، واستحدثت 100 ألف فرصة عمل.
الاستثمار الروسي
إذا كانت مصر قد حلَّت في مقدّمة الدول المُستقبِلة للمشاريع بقيمة 37,7 مليار دولار، وبحصّة 53.4 في المائة من الإجمالي، فإنّ روسيا قد تصدّرت قائمة أهمّ المُستثمرين في المنطقة بقيمة 32,8 مليار دولار، وبنسبة 46.4 في المائة.
ومع التوسّع في الاستثمارات الماليّة والمشاريع النفطيّة والصناعيّة والاقتصاديّة، وكذلك الاتّفاقات العسكريّة بين القاهرة وموسكو، تستعيد روسيا لحظات الاختراق الاستراتيجي الذي سجّله الاتّحاد السوفياتي منذ حوالى 60 سنة مع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي اتّجه شرقاً بعدما خذلته واشنطن في التسليح وبناء السدّ العالي في الخمسينيّات. ووفق وزارة التجارة والصناعة في القاهرة، يبلغ حجم الاستثمارات الروسيّة غير البتروليّة في مصر نحو 66,5 مليون دولار، تمّ ضخّها في 434 مشروعاً. مع الإشارة إلى أنّ روسيا تستفيد من فائضٍ تجاري كبير بلغ 6,2 مليار دولار في العام الماضي، إذ صدّرت إلى مصر بقيمة 6,7 مليار دولار، واستوردت منها بقيمة 500 مليون دولار فقط، وفق إحصاءات جهاز الجمارك الروسي.
أمّا الاستثمار “الاستراتيجي” الذي تُركِّز روسيا عليه لضمان مَصالحها ونفوذها، ليس في مصر فقط بل في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، فهو يشمل النفط والغاز والصناعات الكبيرة والكهرباء من الطّاقة النوويّة، ويقدَّر حجمه بما لا يقلّ عن 40 مليار دولار، وأهمّها ، إنشاء منطقة صناعيّة روسيّة في محور قناة السويس باستثمارٍ يصل إلى نحو7 مليارات دولار، على امتداد 10 سنوات بدءاً من العام الحالي. وقد وصف وزير الصناعة المصري طارق قابيل هذا المشروع بأنّه يمثّل نقلة نوعيّة في مستوى العلاقات الاستراتيجيّة بين البلدَين، وسيجعل من مصر محور ارتكاز لانطلاق المُنتجات الروسيّة إلى الأسواق العالميّة كافّة، وبخاصّة في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا. وهناك مشروع بناء محطّة للطّاقة النوويّة في منطقة الضبعة، والذي تمّ إطلاقه في كانون الأوّل (ديسمبر) الماضي، وحدَّدت روسيا البدء في بنائه في العام 2020، وستقوم بتنفيذه مؤسّسة “روس آتوم” على مدى 7 سنوات، ويهدف إلى توليد الطّاقة الكهربائيّة بمعدّل 4800 ميغاواط ، وتبلغ تكلفته 29 مليار دولار، يموّل الجانب الروسي منها 25 مليار دولار على شكل قرْض بفائدة سنويّة 3 في المائة، مقابل نحو 4 مليارات دولار، مساهمة الجانب المصري. وفضلاً عن ذلك، هناك مشاريع النفط والغاز، منها مساهمة شركة “روس نفط” بنسبة 30 في المائة من حقل الغاز “ظهر”، الذي يُعدّ الأكبر في المتوسّط وتقدَّر احتياطاته بنحو 850 بليون متر مكعب، اشترتها من شركة الطّاقة الإيطاليّة “إيني” في إطار صفقة بلغت قيمتها 2,8 مليار دولار. كذلك شركة “غاز بروم”، وهي من أبرز شركات استخراج الغاز الطبيعي في العالَم، وقد بدأت خطواتها الاستثماريّة في مصر نهاية العام 2012، ووقَّعت في نيسان (إبريل) 2015 اتفاقيّة توريد نحو 35 شحنة غاز مُسال لمصر على مدى خمس سنوات بمعدّل 7 شحنات سنويّاً حتّى العام 2020.
ويُلاحظ أنّ روسيا توسّعت كذلك في استثمار النفط والغاز في سوريا ولبنان، وحتّى في العراق، مع استمرار خلافها مع حكومة بغداد بسبب إقدامها على استثمارات نفطيّة مع حكومة كردستان في أربيل.
لا شكّ في أنّ الروس تمكّنوا من إحداث اختراق كبير في التحالفات المُرتقبة في المنطقة، وذلك بفضل جرأتهم وشجاعتهم والتمسّك بحلفائهم، في مقابل “دولة أميركا المتردّدة”، ولكن بالطبع فإنّ روسيا لن تحلّ محلّ أميركا، مع التأكيد على أنّ انحسار الدور الأميركي في العالَم وفي منطقة الشرق الأوسط تحديداً، سيُساعد في “تسخين” العلاقات مع موسكو، وخصوصاً في إطار خلط أوراق كثيرة قد تُحدث توازناً في “لعبة الأُمم” بين اللّاعبين الإقليميّين والدوليّين، على أن يبرز في هذا المجال دَور العلاقات الاقتصاديّة وتمويل صفقات المواقف السياسيّة والسلاح وحتّى العمليّات العسكريّة والأمنيّة.
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)