روسيا تنقّح «تسوية» الشمال: فلْنستنسخ تجربة الجنوب
بعد ساعات من إنهاء الوفد الروسي، برئاسة نائب وزير الخارجية، سيرغي فيرشينين، زيارته لإسطنبول حيث أجرى لقاءات مع مسؤولين أتراك، من بينهم نائب وزير الخارجية، سادات أونال، خرج وزير الدفاع التركي، خلوصي آكار، بتصريحات جديدة حول العملية العسكرية التي أعلنت بلاده مراراً عزمها على تنفيذها ضدّ «قسد»، قائلاً إنها «مسألة تقنية ومسألة تكتيكات وحسابات». وأنبأ هذا التصريح بتمهّل تركي، أملاً بتحصيل مكاسب على طاولة الحوار السياسية، بدلاً من خوض غمار حرب من شأن الخسائر المرافقة لها أن تؤدي دوراً حاسماً، ربّما لغير مصلحة الرئيس رجب طيب إردوغان، في الانتخابات الرئاسية المقرَّرة في شهر حزيران من العام المقبل. وعلى الرغم ممّا حمله كلام أونال من تأكيد غير مباشر لتأجيل الهجوم، فهو لم يخلُ من نبرة تهديد مستمرّة ضدّ «قسد»، المطالَبة بالابتعاد 30 كلم عن الحدود، الأمر الذي كرّره إردوغان، خلال اتصال هاتفي مع نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، ناقش خلاله الطرفان ملفات عديدة؛ من بينها ممرّ الحبوب المتعلق بالحرب في أوكرانيا.
وفي تفاصيل ما قدّمه الوفد الروسي لأنقرة، أوضحت مصادر كردية، في حديث إلى «الأخبار»، أن الروس عرضوا، خلال النقاشات التي خاضها قائد قواتهم في سوريا ألكسندر تشايكو، مع قائد «قسد» مظلوم عبدي، خلال زيارتَين للأوّل إلى مدينة القامشلي في الحسكة، طرحاً جديداً، بعد رفض عبدي الطرح القديم المتمثّل في سحب قواته من عين العرب (كوباني) ومنبج وتل رفعت، قبل التوصّل إلى اتفاق مع دمشق تعترف خلاله الأخيرة بـ«الإدارة الذاتية»، وهو ما ترفضه الحكومة السورية رفضاً قاطعاً. وبيّنت المصادر أن المقترح الجديد قضى بسحب قوات «قسد» والإبقاء على عناصر الأمن الداخلي الكردية (الأسايش) إلى جانب قوات الجيش السوري، بالإضافة إلى رفع العلم السوري، وإعادة عمل الدوائر الحكومية، في ما يشبه إلى حدّ ما الخطّة الروسية التي جرى تطبيقها في الجنوب، حيث بقيت الفصائل المعارضة إلى جانب القوات الحكومية، الأمر الذي أنهى الاقتتال في هذه المنطقة، ونقلها إلى الحالة السياسية. على أن المقاربة الروسية الجديدة سرعان ما قوبلت، بعد فترة تردّد أميركي مقصود، بتصعيد من قِبل واشنطن التي بادرت، وفق المصادر ذاتها، إلى تقديم تطمينات لـ«قسد» بعدم المساس بمنبج وعين العرب، لِما لهما من أهمية كبيرة في كيان «الإدارة الذاتية» التي تحاول الولايات المتحدة ترسيخها في سوريا. وبهذا، تبقى مسألة تل رفعت التي أبلغ المسؤولون الأميركيون، قادة «قسد»، أن حلّها بيد الروس، وهو ما دفع «الذاتية» إلى إعلان موافقتها على تنفيذ الخطّة الروسية في تل رفعت فقط. لكن موسكو أصرّت على أن تشمل التسوية عين العرب ومنبج أيضاً، وخصوصاً أن هاتين المنطقتَين مشمولتان بـ«اتفاقية سوتشي» الموقّعة بين تركيا وروسيا عام 2019.
بناءً عليه، وفي ظلّ موافقة تركيا المحتمَلة على الخطّة الروسية الجديدة، باتت «قسد» أمام تحدّي اتّخاذ قرارات مصيرية ضمن مدّة زمنية محددة: فإمّا الموافقة على هذه الخطّة بكلّ تفاصيلها، أو مواجهة خيارات أخرى. إلا أن مسؤولي «الذاتية» لا يزالون يحاولون استثمار رفض دمشق المعلَن لأيّ تقدّم برّي تركي جديد، باعتبارهم مسألة الدفاع عن الشمال السوري من مسؤولية الحكومة السورية، وأن التهديدات التركية لا تمسّ «الإدارة» التي ستستمر حتى لو خسرت بعض المناطق فحسب، وإنما تمسّ أيضاً وحدة الأراضي السورية التي تدافع عنها دمشق. وفي الوقت نفسه، لا تزال «قسد» تعوّل على موقف واشنطن، التي حاولت وضع مقترحها القاضي بإعادة هيكلة «الذاتية» وبناء علاقات بينها وبين أنقرة، على الطاولة من دون جدوى. وإلى أبعد من ذلك تذهب بعض الآراء داخل «قسد»، حيث ترى أفضلية خسارة تل رفعت في حال المواجهة مع تركيا، على الانسحاب من المناطق المستهدَفة جميعها وتسليمها للجيش السوري، حتى مع قبول موسكو ودمشق الإبقاء على «الأسايش» فيها. ويرى أصحاب هذه الآراء، والذين يمثّلون الوزن الأثقل داخل «قسد»، أن تسليم تلك المناطق يمثّل خسارة في الملفّ التفاوضي مع الحكومة السورية حول مسألة بقاء «الذاتية»، والذي تحاول الأخيرة وضعه على طاولة الحوار بحثاً عن اتفاق يضمن لها تَحقّقه.
في موازاة ذلك، صعّدت هيئة «تحرير الشام» (جبهة النصرة)، وفصائل أخرى منتشرة على طول خطوط التماس ضمن مناطق «خفض التصعيد» (محافظة إدلب، ومعها أجزاء من أرياف حلب، وحماة، واللاذقية)، من خروقاتها، عبر محاولة تنفيذ عمليات خاطفة، ورفع مستوى الاحتكاك. في المقابل، ردّ الجيش السوري باستهداف مناطق انطلاق الهجمات، بالإضافة إلى تنفيذ كمين في ريف اللاذقية قَتل خلاله عدداً من المسلحين، وقبض على أحدهم حياً، وفق تسجيل مصوّر وزعته وزارة الدفاع. وجاء ذلك في وقت أعادت فيه موسكو التشديد على ضرورة التزام أنقرة بتعهّداتها، وعزل «الفصائل الإرهابية» تمهيداً لعملية سياسية بين المعارضة والحكومة السوريتَين. ومن شأن هذا التذكير أن يعيد ملفّ إدلب وفتح طريق حلب – اللاذقية إلى الواجهة، وبالتالي أن يفتح الباب أمام إمكانية تحقيق تقدّم ميداني في الملفّ المذكور، بالتوازي مع حلحلة معضلة منبج وعين العرب وتل رفعت، في حال عدم التوصّل إلى الحلّ الذي تأمله موسكو من مساعيها الأخيرة، وخصوصاً أن الملفَّين مرتبطان فعلاً وفق اتفاقية «سوتشي 2019» وملحقاتها.
صحيفة الأخبار اللبنانية