روسيا والعراق والمفارقات العجيبة في الشرق الأوسط المتغير ( فيودور لوكيانوف)

فيودور لوكيانوف

 

مع مرور الوقت أكثر فأكثر على حرب العراق واحتلاله من قبل القوات الأمريكية والحليفة لها يثير هذا "المشروع الضخم" مزيداً من الاستغراب.
فرغم إنفاق مئات المليارات من الدولارات وخسارة عدة آلاف من الجنود والضباط الأمريكيين في العراق (بينما يحصى عدد الضحايا بين السكان المحليين بمئات الآلاف)، تواجه الولايات المتحدة حقيقة مذهلة حيث لا تسير هذه الدولة العربية في ركاب سياسة واشنطن فحسب، بل وأقامت علاقات وثيقة مع عدو أمريكا الرئيسي اللدود – إيران، وتقف مواقف مستقلة عن الولايات المتحدة في معظم المسائل.
وفي مثل هذا الوضع "الغريب"، في نظر البيت الأبيض،  تضطر الإدارة الأمريكية إلى التغاضي عن الاتصالات الجارية بين بغداد وطهران، وإن يطرح أعضاء الكونغرس من حين إلى آخر أسئلة حول الحصيلة النهائية التي حصدتها واشنطن نتيجة حربها في العراق التي كلفت الولايات المتحدة ثمنا باهظا بشكلين نقدي مباشر وسياسي غير مباشر من حيث هيبة واشنطن وسمعتها.  
ولكن مسألة النتائج المثيرة للاستغراب لحملة واشنطن العراقية قد طفت إلى السطح من جديد واكتسبت طابعا حيويا ملحا، الأسبوع الماضي، بالارتباط بزيارة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي إلى موسكو، حيث أثارت هذه الزيارة وما تم إعلانه في أثنائها حول قيام الجانب العراقي في الأشهر الأخيرة بتوقيع عدد من عقود استيراد الأسلحة والمعدات العسكرية الروسية بقيمة إجمالية تعادل 4.2 مليار دولار،  تساؤلات ممزوجة بمظاهر الحيرة والارتباك طرحها مراسلون أمريكيون وأجانب في واشنطن على الناطقة الرسمية باسم الخارجية الأمريكية فيكتوريا نولاند. وكانت  الأسئلة المطروحة تتمحور حول الغاية من الحرب الأمريكية على العراق بعد أن قرر أهل الحكم في هذا البلد التوجه إلى المنافس الرئيسي الخطير للبزنس الأمريكي في مجال التسليح وهو روسيا.
وأبدت نولاند، كما هو معلوم، عدم اكتراثها بهذا الموضوع بذريعة أن حجم العقود المبرمة بين الولايات المتحدة والجمهورية العراقية في مجال التسليح يفوق مبلغ الأربعة مليارات دولار المذكور ثلاثة أضعاف وحرصا منها أيضا على تجنب افتعال فضيحة كبرى بشكل صريح من خلال  معاتبة دولة أجنبية ذات سيادة (العراق) على تعاملها مع دولة مستقلة أخرى (روسيا) وحظر التعاون بينهما. غير أن زيارة المالكي إلى روسيا تركت علامة هامة ومتميزة تؤشر إلى حدوث متغيرات فوضوية في المنطقة.  
لقد بدا للجميع أن روسيا فقدت آي آفاق لها في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين. ذلك أن موسكو جرى النظر إليها من منظور السلطات العراقية الجديدة باعتبارها دولة شريكة للدكتاتور العراقي البغيض ما أدى إلى تجميد كل أنواع التعاون تقريبا مع الشركات الروسية. خاصة، في ظل احتلال العراق في فترة السنوات 2003 – 2010 من قبل الولايات المتحدة بالدرجة الأولى والتي لم ترغب في تقاسم غنائم حربها مع أي جهة كانت.
إلا أن واشنطن لم تتمكن من الحفاظ على بغداد تحت حمايتها، وإن استطاع الإستراتيجيون الأمريكيون إخماد موجة العنف الكارثية في العراق في منتصف العقد الأول من القرن الجديد مما ساعد على تهيئة الظروف لبناء نظام سياسي جديد في هذه الدولة. وفي هذا السياق جرت في البلاد انتخابات ديمقراطية حقا رغم كل التعقيدات عكست نتائجها توزيع وميزان القوى السياسية الفاعلة على الساحة وتوجهاتها وتطلعاتها. للمفارقات العجيبة، تبين في أثناء هذه الانتخابات أن الأناس في الشرق الأوسط في ظل حرية التعبير عن إرادتهم يصوتون ليس لصالح من تراهم واشنطن مقبولين لها بصورة مثلى أو معقولة، على الأقل.
إذ صارت الأغلبية الشيعية بين العراقيين التي مارس نظام صدام حسين سياسة القمع والاضطهاد تجاهها توجه أنظارها صوب إيران الشيعية. ورغم أن الحديث عن تبعية السلطات العراقية الحالية لإيران عار عن الصحة تماما، لا بد من القول إن المالكي وأنصاره يصغون إلى صوت طهران وقم بكل اهتمام.
كما بلور النزاع في سوريا ذلك الوضع الخاص الذي يشغله العراق بين باقي الدول العربية، حيث يتميز موقفه إزاء نظام بشار الأسد بشدة التحفظ بدلا من العداوة السافرة حتى يمكن اعتبار بغداد حليفا خفيا لدمشق. لذا لم يكن من قبيل المصادفة أن أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في ختام محادثاته مع نوري المالكي خلال زيارة الأخير إلى موسكو أن وجهات نظر روسيا والعراق إزاء الأزمة السورية متطابقة عمليا.
إن حاجة العراق إلى إقامة علاقات أوثق مع روسيا تنبع بالذات من ذلك الوضع الوسطي الذي تحتله بغداد بين مختلف المعسكرات الإقليمية.
فالولايات المتحدة تنتظر من العراق إبداء ولاء أكبر وهي تراقب أجندتها بعدم الرضا المتزايد. أما البلدان العربية الرائدة التي التفت حول معاداتها لبشار الأسد فهي تبدأ بالنظر إلى المالكي كنسخة جديدة لـ"الطابور الخامس" الموالي لإيران، علما بأن الانحياز النهائي إلى جانب إيران – إذا حصل فعلا – لا بد أن يسفر عن حدوث مشاكل كبيرة بالنسبة لبغداد، لأن فقدان الاستقلالية، أولا، أمر غير مريح حتى لو تم ذلك لمصلحة أقرب الشركاء. ثانيا، لأن الشيعة في العراق لا يشكلون الأغلبية المطلقة مما يحتم على الحكومة المركزية في بغداد مراعاة آراء الآخرين من أجل ضمان استقرار البلاد.      
وفي ظرف كهذا قد يكون التوجه نحو روسيا مخرجا مثاليا. فموسكو ليس لديها حاليا أي أطماع سياسية واضحة تجاه العراق، إذ لا يسعى أحد إلى تطبيق نفس نمط الحكم الذي كان في عهد صدام حسين. وما يهم روسيا بالدرجة الأولى هو توسيع الأسواق الخارجية لمنتجاتها، وهي مستعدة لتقديم دعم سياسي بالمقابل، خاصة والمتغيرات الحاصلة في ليبيا وسوريا تضيق مجال إمكانياتها في المنطقة.
لقد أظهر "الربيع العربي" أن روسيا ليست لاعبا أساسيا في الشرق الأوسط، ومع ذلك بينت التطورات الجارية في خضمه وبكل وضوح أنه يتعذر بدون مشاركة الكرملين ودعمه التأثير على سير الأحداث بجدية مطلوبة. وتمثل روسيا بالذات لاعبا مناسبا ذا قيمة في ظرف تنشأ فيه حاجة إلى إيجاد ثقل موازن أي قوة خارجية تستطيع الحث على تمرير هذا السيناريو أو ذاك ولو دون أن تكون لها القدرة على تغيير نتيجة اللعبة بالكامل.  
إن الحديث عن ظهور حلف ما يضم في تشكيلته كلا من روسيا وإيران والعراق وسوريا سابق لأوانه، بلا أدنى شك، إذ هيهات أن يتجسد إئتلاف كهذا شكليا على أرض الواقع. غير أن الرابطة غير الشكلية بين أطرافه من شأنها أن تلعب دورها في ظروف تغرق غيرها من الدول الكبرى أكثر فأكثر في المستنقع الغامض والخطير للنزاع الدائر في سوريا وحولها. أسطع مثال على ذلك هو تركيا التي راهنت على الاستفادة بشكل أقصى لمصلحتها من حضورها في مجال تسوية المشكلة السورية لتشغل خانة أكثر بلدان المنطقة نفوذا عند تقاطع عدد من خطوط التوتر الهامة في آن معا. ولكن تركيا قد أخطأت في حسابها، إذ تبين أن نظام بشار الأسد يظل أكثر صلابة مما كان الأتراك يتصورون. أما الشيء الرئيسي هنا فيكمن في تعزيز مواقع عدو تركيا اللدود ألا وهو حزب العمال الكردستاني نتيجة لتضعضع مواقف دمشق الرسمية والذي يتجه الآن في حقيقة الأمر إلى بناء كيان شبه دولة كردية على امتداد الحدود السورية التركية على غرار ما هو قائم في كردستان العراق. فإذا كانت تركيا بدأت لعبتها انطلاقا من سعيها لترسيخ مواقعها في الخارج، فإنها اليوم صارت بأمس الحاجة إلى دعم الاستقرار والأمن داخل حدودها القومية. 
لقد شاع اعتقاد قبل فترة وجيزة أن نهج روسيا تجاه دمشق هو نهج خاسر من حيث المبدأ، إذ يؤدي إلى فقدان آخر ما لدى روسيا من دعائم لتواجدها في الشرق الأوسط، خاصة فمن الصعب التصور أن بشار الأسد يتمتع بفرص واقعية للبقاء في السلطة على مدى بعيد بعد كل ما حدث في بلاده في الأشهر العشرين الأخيرة. ولكن الأوضاع في المنطقة تتغير بسرعة مذهلة وتنشأ معها إمكانيات جديدة بدلا من الضائعة أو المفقودة. والمسار العراقي يظهر بكل جلاء أن استعادة المواقع أمر ممكن في ظل تعاقب معين للأحداث حتى بعد الهزائم النكراء.
صحيح أن روسيا أصبحت اليوم شريكا غير مرغوب فيه في بلدان عصف بها طوفان "الربيع العربي".  ولكن دعنا نرى ما ستصل إليه التطورات في غضون سنتين أو ثلاث.

مجلة "Russia in Global Affairs"                    

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى