روسيا والغرب بعد «موقعة» القرم (هاني شادي)

 

هاني شادي

لا يزال الغرب يتوعد بمعاقبة روسيا على سياستها في أوكرانيا وضم القرم إلى أراضيها، ولكن روسيا تبدو غير عابئة بتلك التهديدات. فالغرب يُلوّح بالسلاح الاقتصادي والتجاري ضد روسيا، إذ أكد البيان الختامي لاجتماع قادة الدول الغربية الرئيسية السبع في لاهاي في 24 آذار الجاري استعداد هذه الدول لفرض عقوبات تستهدف قطاعات الاقتصاد الروسي إذا استمرت روسيا في تصعيد الوضع في أوكرانيا. ونعتقد أن القطاعات الاقتصادية الروسية التي يرغب الغرب باستهدافها، هي قطاع صناعة الطاقة وقطاع التصنيع العسكري والقطاع المصرفي. في الوقت نفسه، تُلوّح الدول الغربية باستخدام سلاح العزلة السياسية ضد روسيا على المستوى الدولي، حيث اتهم الرئيس الأميركي باراك أوباما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن استيلاءه على جزء من أوكرانيا يشكل خطراً على النظام الدولي الذي أنشئ على مدار العقود الماضية.
وبجانب حرب «القوائم السوداء» بين روسيا والدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة، دخلت وكالة «Fitch» على الخط لتخفض تصنيف تسع شركات حكومية روسية عملاقة إلى المستوى السلبي، منها «غاز بروم»، و«لوكويل»، وشركة «السكك الحديدية الروسية»، و«المؤسسة الموحدة للطاقة»، وشركة «آتوم اينيرغو بروم»، ومؤسسة «سوخوي للطائرات المدنية»، وشركة «غازبروم نيفت». كما خفضت «Fitch» تصنيفها لخمسة عشر مصرفاً روسياً كبيراً، منها «سبيربانك» (بنك التوفير الروسي)، و«غازبروم بنك»، وبنك التجارة الخارجية «فنيش ايكونوم بنك»، والمصرف الزراعي الروسي. وكانت Fitch قد خفضت في الحادي والعشرين من الشهر الجاري التصنيف الائتماني العام لروسيا من «مستقر» الى «سلبي».
ويرى الكرملين أنه يجب عدم التراجع أمام التهديدات والعقوبات الغربية، وشدد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في مدينة لاهاي الهولندية (24/3) على «أن موسكو لم تعد تولي الغرب ثقتها، بعدما نكث الشركاء الغربيون ما قطعوه من عهود عندما خرجت روسيا من عباءة الاتحاد السوفياتي». هذه «الثقة المفقودة» تتعلق في المقام الأول بتوسع حلف شمال الأطلسي نحو الحدود الروسية وإصرار واشنطن على نشر الدرع الصاروخية، والانتقادات المتواصلة للنظام السياسي لبوتين في ما يتعلق بالديموقراطية وحقوق الإنسان.
وفي ظل هذه الأجواء، واصلت روسيا سياسة الأمر الواقع في القرم لثبيت عملية ضمها. ففي أول زيارة لمسؤول روسي رفيع المستوى للقرم، تفقد وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو الاثنين الماضي عدداً من المؤسسات التابعة لأسطول البحر الأسود الروسي. كما التقى عدداً من العسكريين الأوكرانيين السابقين، ومنهم قادة الوحدات والمؤسسات العسكرية الأوكرانية التي كانت منتشرة في القرم، والذين أبدوا رغبتهم في مواصلة الخدمة العسكرية في صفوف الجيش الروسي. ومن تجليات سياسة الأمر الواقع التي تمارسها روسيا، بداية تداول العملة الوطنية الروسية «الروبل» رسمياً في شبه جزيرة القرم في الثالث والعشرين من الشهر الجاري. وتسمح موسكو حاليا باستمرار تداول «الهريفنا» العملة الوطنية الاوكرانية في القرم الى جانب «الروبل» حتى الأول من يناير 2016، لتصبح العملة الروسية بعد ذلك التاريخ العملة الرسمية الوحيدة داخل القرم وسيفاستوبول.
ويبدو أن عودة القرم الى روسيا قد وضعت حداً لمرحلة امتدت نحو عقدين من الزمن للعلاقات بين موسكو وواشنطن تخللتها مراحل من الشد والجذب. ويصف بعض المراقبين الروس الوضع الراهن بمرحلة اختلافات وتناقضات عميقة وقطيعة طويلة تشبه الهزة الأرضية القوية، التي دمرت كل الأماني التي وُلدت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. ويرى هؤلاء المراقبون أنه من غير الصحيح المساواة بين العلاقات الأميركية ـ السوفياتية والعلاقات الحالية بين واشنطن وموسكو، لأن الأولى كانت تمثل صراعاً إيديولوجياً بين الرأسمالية والشيوعية، أما حاليا، فإن إيديولوجية بوتين هي القومية الروسية بدلا من الماركسية اللينينية. ولكن الأمر الهام يتمثل في أن النخبة الحاكمة الروسية تعتقد أنه «ما دامت أوروبا بحاجة الى الغاز والنفط الروسيين، فلن تعطي ضغوط واشنطن على الكرملين نتائج ملموسة». ومع العلم أن أوروبا تعتمد كثيراً على موارد الطاقة الروسية، فقد لا يكون اعتقاد النخبة الحاكمة الروسية صائباً على إطلاقه. فنحو 50 في المئة من إيرادات ميزانية الدولة الروسية تأتي من صادرات الغاز والنفط. كما أن روسيا تصدّر إلى بلدان الاتحاد الأوروبي حوالي 80 في المئة من إجمالي صادراتها النفطية، و70 في المئة من إجمالي صادراتها من الغاز، و50 في المئة من إجمالي صادراتها من الفحم.
الأمر المهم الآخر، هو احتمال أن تؤدي الأزمة حول أوكرانيا إلى «انتعاش» حلف شمال الأطلسي من جديد في البحث عن دور له بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. فمن المعروف أنه قبل الأزمة الأوكرانية كان العسكريون والسياسيون الغربيون يفكرون في الدور الذي يمكن أن يقوم به الحلف بعد انسحاب معظم قواته من أفغانستان في العام 2014. وكان من المفترض أن تركز قمة «الناتو» المقرر عقدها في مقاطعة «ويلز» البريطانية على مكافحة الإرهاب والتهديدات الإلكترونية. كما بدأت بعض الدول الأوروبية في الحديث عن انتهاء دور الحلف والدعوة لتقليص النفقات العسكرية إلى أدنى مستوى. إلا أن الوضع تغير خلال الأسابيع القليلة الماضية، حيث بات من المنتظر أن يصبح ضمان الأمن الجماعي لأعضاء «الناتو»، لا سيما في أوروبا الشرقية، قضية أساسية في القمة. ولا يستبعد عدد من الخبراء أن تنشر الولايات المتحدة في المستقبل ما بين عشرة آلاف وعشرين ألف عنصر من قواتها في أوروبا الشرقية.
هكذا يبدو المشهد الروسي الغربي بعد «موقعة» القرم، التي ظهرت فيها روسيا اللاعب الرابح في الصراع مع «التكتل» المكوّن من الولايات المتحدة والدول الأوروبية وحلف «الناتو» على الساحة السوفياتية السابقة. مشهد قد يؤدي مستقبلا إلى تبدل الأوزان والأدوار النسبية على الساحة الدولية في إطار ميلاد منظومة متعددة «الأقطاب» لا تعني بالضرورة، كما يتصور البعض، جعل النظام الدولي أكثر إنسانية وعدالة وديموقراطية. ولكن هذا، على ما يبدو، يمثل ضرورة موضوعية ربما تُعيد إنتاج الماضي أو ربما تدفع في اتجاه البحث عن مخرج من المشهد القاتم الذي نعيش.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى