رياض الريّس صحافياً وكاتباً وناشراً… إشكالياً
لرياض نجيب الريّس تجربة غنيّة في الصحافة والثقافة والنشر والحياة. امتدّت زمنيًّا طوال ستة عقود، وانتشرت مكانيًّا على ثلاث قارّات، وتمخّضت عن سبعة وثلاثين كتابًا في حقول معرفية مختلفة، وجريدة سياسية، ومجلّتين ثقافيّتين ودار نشر، ومكتبة… وهي تجربة طويلة ومتنوّعة، حافلة بالإنجازات والإخفاقات، ملأى بالمغامرات وحب الاكتشاف.
هي ليست تجربة عادية ما يجعل كتابتها مقترنة بالفائدة، وقراءتها محفوفة بالمتعة. هذه التجربة الغنية، المتنوّعة، المختلفة هي موضوع «صحافي المسافات الطويلة»، الكتاب السابع والثلاثين للريّس، الذي هو مجموعة حوارات أجرتها معه الكاتبة السورية سعاد جرّوس، ومجموعة مقالات كتبها هو. وهكذا، يجمع بين فنّي الحوار والمقال. (رياض الريّس للكتب والنشر).
في الشكل، تبلغ الحوارات سبعة عشر حوارًا في موضوعات مختلفة، وتشغل 223 صفحة، وتمثّل 58 في المئة من الكتاب، وتبلغ المقالات سبعة مقالات، وتشغل 83 صفحة، وتمثّل 21 في المئة من الكتاب، بينما تمثّل المقدّمات والفهارس والصفحات الأخرى النسبة المتبقّية، ما يعني أن نسبة المقالات الى الحوارات هي ربع الى ثلاثة أرباع.
في المضمون، تتناول الحوارات: الهويّة الملتبسة لصاحبها، علاقته مع النظام السوري، هجرته اللندنية، فشله في الحصول على تمويل لإصدار جريدة عربية في لندن، اصداره جريدة «المنار»، لقاءاته ببعض القادة العرب، تجربته في النشر، اصداره مجلّتي «الناقد» و «النقّاد»، سيرته الدراسية، انفتاحه على الأديان الأخرى، استقلاليّته وعدم انخراطه في العمل الحزبي، اقامته اللندنية، اقامته البيروتية، تنقّله بين المؤسّسات الإعلامية اللبنانية المختلفة، وجولاته الصحافية العربية والأوروبية.
تأتي سعاد جرّوس الى الحوار من صداقة أكثر من خمسة عشر عامًا، وإلمامٍ بسيرة الريّس، واطّلاعٍ على كتبه التي أربت على ثلاثين كتابًا؛ فحوارها هو حوار العارف، وهو يتم مباشرة من خلال لقاءات في بيروت ومداورة من خلال وسائط التواصل الحديثة، ويغطّي سيرة الرجل في معظم مراحلها العمرية، وفي تعدّد اهتماماته، وفي طول المسافات التي قطع، وسعة العلاقات التي نسج، ما يجعلنا ازاء سيرة ذاتية غنية، متنوّعة، تطلّ على العامّ، الثقافي والصحافي والسياسي. وبذلك، تنطوي على تاريخ مرحلة عاشها صاحبها، وشارك فيها، وكان شاهدًا عليها.
أسئلة جرّوس تراعي التسلسل التاريخي والتدرّج المنطقي أحيانًا، وتخلّ بهما أحيانًا أخرى. بعضها جاهز محضّر مسبقًا، وبعضها الآخر ابن لحظته تمليه اجابة الريّس. أمّا أجوبته فمعظمها من الذاكرة، وبعضها يستند الى الكتب لا سيّما حين يضمّنها نصًّا مقتبسًا من أحد كتبه. وهي أجوبة مكتنزة بالوقائع والذكريات والملاحظات، وتتخلّلها خلاصات واستنتاجات معيّنة في مختلف محاور الحوار، وقد ترد الخلاصة بصيغة التمنّي كقوله في العلاقة اللبنانية السورية: «أتمنّى لو أن اللبنانيين فهموا السوريين أكثر، ولو أن السوريين تعلّموا من اللبنانيين أكثر …»(ص 49)
وقد تشتمل على حكم قاسٍ كقوله في المثقّفين العرب: «… طموحهم أن يكونوا خدمًا عند السلطة في العالم العربي ويتمنّون الحصول على كسرة خبزٍ حبًّا في السلطة لا الخبز…» (ص 107)، وقد تنطوي على توصيف معيّن كقوله: «يوسف الخال كان بطريركًا حقيقيًّا للشعر، تحيط به مجموعة من الشعراء القساوسة يرفعهم رتبة نهارًا، وينزلهم رتبة ليلاً». (ص 173).
وإذا كان هذا التوصيف يصحّ في توزيع الأدوار على المحيطين به، فإنّه، بالتأكيد، لا يصحّ في تصنيف الشعراء لأنّ بين المحيطين به من هو أشعر منه وأجدر ببطريركية الشعر.
تتمخّض الحوارات عن بورتريه داخلي لشخصية رياض نجيب الريّس، بعض ملامحه المغامرة، الطموح، حبّ الأسفار، الانفتاح على الآخر، الاستقلالية، حفظ الجميل، الطرافة، وحبّ الحياة. وعلى رغم هذه الملامح الإيجابية، يعتبر أنّه فشل في تحقيق مشروعه الصحافي، ونجح جزئيًّا كناشر، وأمضي خمسين عامًا من «تاريخ النجاح المؤجّل» (ص 255).
في أجوبته، لا يرسم الريّس صورة مثالية له، ولا يجترح بطولات وهمية، ولا يصطنع أدوارًا منتفخة. على العكس من ذلك، هو لا يتورّع عن الاعتراف ببعض الغباء في قوله: «أرى أن أحد أطوار الغباء في حياتي، ظنّي ـ ولو لوهلة ـ أنّ بإمكاني إصدار جريدة في سورية في ظل النظام القائم» (ص 46)، أو بتواضع موقعه في نقاش خميس مجلة «شعر» في قوله: «كنت في صف الكومبارس… ولم أكن مشاركًا في رأي له أي وزن أو قيمة قد تؤثّر في سير النقاش» (ص 70)، أو بتقييم بعض الآخرين السلبي لشعريته في قوله: «لم يقتنع يوسف الخال بشعريّتي» (ص 168)، أو بموقف بعضهم منه كنقله عن مسؤول يمني رفض مقابلته القول إنّه «لا يريد لقاء هذا الزنديق!» (ص 211).
هذه الخصيصة التي تخلو منها السيرة الذاتية العربية، في شكل عام، يشفعها الريّس بأخرى، لا تقلّ عنها أهمّية، حين يعترف بفضل الآخرين أفرادًا ومؤسّسات عليه، في حياته الدراسية أو المهنية؛ فعلى مستوى الأفراد، هو مدين لسعيد فريحة بمنحه الفرصة المهنية الأولى، ولكامل مروّة بتكوين شخصيته الصحافية، ولغسان تويني بمنحه الفرص والتجارب، على سبيل المثال…، وعلى مستوى المؤسّسات، يقرّ بفضل «لندن أكاديمي» التي أتاحت له «فرصة التعرّف الى الثقافة الاجتماعية الإنكليزية» (ص 149)، وبفضل جريدة «المحرّر» عليه كمراسل عامي 1963 و1964 (ص 189)، وبفضل «الحياة» في تكوين شخصيته الصحافية (ص 199)، وبفضل «النهار» في منحه «فرصة لمتابعة معظم التغيّرات التاريخية في مناطق مختلفة من العالم»، ما زاده خبرة وثقافة (ص 205)، على سبيل المثال لا الحصر.
وإذا كانت بعض الحوارات تمحورت حول بلاد معيّنة، عربية وأوروبية، فإنّ المقالات برمّتها تتمحور حول بلاد أخرى زارها الكاتب، وكتب عنها منذ نصف قرن، حتى اذا تعذّرت عليه العودة إليها، يقوم بزيارتها على الورق مستعيدًا ألق الزيارات الميدانية. وهي رحلات بدأها منتصف الستينات، وأنهاها أواخر التسعينات من القرن الماضي، وشملت فيتنام، وتشيكوسلوفاكيا، واليمن، والصين.
ويتجاذبه في هذه الرحلات السياسي والصحافي، فجاءت مقالاته مزيجًا من أدب الرحلة والتقرير الصحافي، وتجاورت فيها السياسة مع الأنتروبولوجيا، واكتنزت بالوقائع والذكريات والملاحظات، وعكست نزوع صاحبها الى المغامرة وحبّ السفر والاستكشاف… وتأتي المقالات لتتكامل مع الحوارات في تقديم سيرة ذاتية مهنية، غنية بالتجارب والدروس والاستنتاجات، مارس الريّس خلالها، على مدى ستة عقود وثلاث قارّات، شغفه الصحافي، ما جعله يعتبر حياته «مهمّة صحافية طويلة» (ص 268).
«صحافي المسافات الطويلة» سيرة ذاتية مهنية في إطار حواري ومقالي، نتعرّف فيها إلى رياض نجيب الريّس الصحافي، والمثقّف، والناشر، ومؤسّس المجلات الثقافية، وصاحب المكتبة، ومانح الجوائز… وهو في تدوينها يسدي خدمة جلّى إلى القارىء العربي، ففي قراءتها كثير من المتعة والفائدة
صحيفة الحياة