رياض بيدس قاص الجليل بين كافكا وبريخت
القدس عنوان فلسطين بالمطلق. غير أنها، فضلاً عن ذلك، تكتسب في مخيال رياض بيدس بعداً آخر: إنها رأس سلّم ركيزته في الجليل. فالجليل والقدس وحدة متكاملة لا قطيعة فيها، شاءت الجغرافيا أم أبت. لا قدس بلا جليل ولا معنى لجليل لا يؤدي إلى قدس تشعّ في أرجاء فلسطين الأربع. صحيح أن الرمز يرتكز إلى مسار الجليلي الأشهر، يسوع بن مريم، الذي انسحبت حياته ما بين مهد يُشرف على القدس – هو بيت لحم – ومستقرّ في أعلى الجليل – الناصرة – تلاه تجوال طويل في مدن فلسطين ودساكرها، انتهى على قمّة من قمم القدس (الجلجلة)، منها أطلّ على التاريخ متجلياً. وعلى رغم أن الطريق من الجليل إلى القدس منحدرة، في عُرف الجغرافيين، فإنها عند الجليليّ بيدس صاعدة إلى ذروتها المطلقة. وقد لا تنفذ إلى عالم رياض بيدس إلا من هذا المنطلق. فبيدس جليليّ أصلاً، ولا يكون فلسطينياً إلا بقدر ما هو جليليّ. أليس من اللافت أن أحداث قصصه ورواياته تدور في معظمها لا سيما في مجموعته الجديدة «المحو» (دار راية – فلسطين) في حيّز مكاني لا يكاد يتعدّى الجليل والقدس؟ وإن جرى بعضها في مدن أوروبية فإنها تحيل باستمرار إلى الحيّز نفسه. من الدنمارك إلى النمسا وغيرهما، لا يُسأل مرة عن موطنه إلا ويجيب: فلسطيني من الجليل. ويصحّح أحياناً: لا لست من الضفة الغربية، بل من الجليل.
باعتماده هذا الموقع الرمزي، يجد بيدس الروائي نفسه، وهو يعيش في ظل دولة «المحو» القائمة، غريباً غربة مضاعفة. يعاني من غربة كل من يعيش على أرض انسحبت من تحت قدميه، فانمحت مع معالمها بعض من ذاكرتها وشحنتها التاريخية وهويتها الثقافية، فأصبح في عرف المهيمن المتجبّر شبهَ دخيل في عقر داره، شأنه شأن كل فلسطيني. ولكنه، على عكس كثيرين من قومه، يعاني من غربة الانفصال عن أهله الصامدين على بقايا محتلّة من أرض فلسطين، يتعلّلون بدفء التكاتف في الضراء عن مستقبل سُدّت نوافذه إلى ما شاء الله، أو بالأحرى إلى ما شاء أصحاب الأمر منهم. غربتان يرزح تحتهما، فينتفض ليحرّر جناحيه وقلبه ما استطاع. وكانت الكلمة وسيلته الوحيدة للاحتجاج، للتنفّس، للبقاء على قيد الحياة. إلى ما تشير هذه الكلمة التي لا يفتأ يرددها منذ مجموعته الأولى؟ يتوق إلى أن يكون مقداماً مناضلاً مثل برتولد بريخت يقتحم قلاع الظلم والاستبداد. فتراه في أقصوصته «بريخت في نومته الأبدية» يُنزل ذلك المسرحي الماركسي القح منزلة الملائكة، فها ملاكه الحارس يقول له بعد أن أيقظه من نومته الأبدية: «يا عزيزي بريخت، لا تنقز ولا تجفل. لقد قطعت شوطاً كبيراً من الملائكية على الأرض. وأستطيع أن أقول لك إنك كنت ملاكاً على الأرض وبعد فترة ستكون ملاكاً هنا». ويضيف الملاك: «بمسرحك وشعرك كدت توقعني في خطيئة كبيرة، إذ إني بعد مشاهدة «دائرة الطباشير القوقازية» تمنيت أن أكون بشرياً». أما الكاتب فلا يني يمتدح مسرح معلّمه، بحيث أن بعض فصول مجموعته يأتي في صيغة «مشهد» أو «مزحة من مشهد واحد».
حنظلة الجليلي
يبقى بريخت مبتغاه، وإن كان وعيه المأسوي المُعتم يجرّه باستمرار إلى دهاليز كافكا، لا سيما في كتابه «تحوّلات»، حيث يبدو الإنسان على صورة صرصار. وعالم بيدس هو عالم الإنسان-الصرصور. إنسان حوّله عنف القمع المنهال عليه إلى صرصور محاصر بين أربعة جدران لا منفذ لها، يرزح تحت وطأة الخوف والوساوس. ذلك ما أراد له جلاده أن يكون. في مشهد يذكّر بكتاب كافكا «المحكمة» (الذي استوحاه صنع الله ابراهيم في قصته «اللجنة»)، يصف أسلوب جهاز القمع الإسرائيلي في تحويل كل فلسطيني إلى عميل مسلوب الإرادة، أو إلى «شيء» فاقد كل ملمح إنساني. يرد هذا المشهد في قصته «المحو»، حيث يحاول جاهداً أن يرطّب مأساته بالاستعانة بمزاح أميل حبيبي الذي يقتبس منه شخصية سفسارشك. ولكن أنّى له حيوية حبيبي الذي يحوّل المأساة سخرية مرّة تنصبّ على رأس جلاده؟ يأخذ هذا المشهد صورة أخرى في قصة «وجبة من حياة بلدوزر إسرائيلي متكدّر»، ينجح فيها بإبراز زهو المحتل في شرعنة عملية «المحو» الممنهج التي يمارسها ضد الفلسطيني، بحيث أن أحد البلدوزورات يتخاذل عن الاستمرار في تلك العملية خوفاً على نفسه أن تؤول إلى الانمحاء، فتستهدفه البلدوزورات الأخرى فتمحوه، ليصبح صنواً للفلسطيني. شرط الصرصور الذي يتلبّسه الكاتب يرى مثيله في الحيوان الفلسطيني: ذاك ما تشير إليه «شكوى كلب» الذي يُنزل بين الكلاب منزلة الفلسطيني الصرصور.
أما أكثر مقاطع المجموعة فتدور حول وصف ذاته المتقزّمة. في «هدية»، يزيغ بصره وهو في القدس الشرقية باحثاً عن بيت أصدقائه الذي تركه لتوّه، إذ فجأة تتحول معالم الحي العربي الذي عهده لتتخذ صورة الحي اليهودي الحديث في القدس الغربية. يُسقط بين يديه، يجفل، يُشده، فلا يجرؤ حتى على الاستعلام عن موقع البيت خشية أن تُظن به الظنون. وتبلغ حالته الذروة في «شرخ». جملة واحدة تمتد على ثماني صفحات، تكاد تخلو من علامات الوقف، تدور على نفسها بلا ملل حتى يملّها القارئ، يتساءل عن حبّ زوجته الوفية له، خائفاً عليها من نفسه. لأن كل الذين أحبوه خُذلوا، شقوا أو ماتوا مبكراً، بعكس أبيه الذي لم يكنّ له الحبّ يوماً فعمّر طويلاً. إنه النحس مُجسّداً، لا يُنقذه إلا الانقياد لفلسفة «حنظلة»، تلك الشخصية التي ابتكرتها عبقرية ناجي العلي. يدير ظهره للأحداث الخارجية رفضاً منه لواقع مرّ، غير أن هذا الواقع يتسلل إلى لاوعي الكاتب ليفرض عليه رقابة صارمة حتى في تلك البؤرة الحيوية التي يستمدّ منها بعض الطاقة على الصمود، أي في إبداعه القصصي وهو مصدر قوته الوحيد ككاتب. يستبطن حنظلة كومبيوتر الكاتب ليملأ صفحاته بالخطوط الحمر التي تشير إلى المحظور من القول: رقابة ذاتية تلقائية. فماذا يتبقى لإنسان لا يعيش إلا بالكتابة؟ بخاصة أن الكتابة ليست فقط متنفس بيدس الوحيد، بل هي أيضاً وسيلته للتواصل مع من تبقى له من الآخرين، إذ بهذا التواصل وحده يجابه شرطه الصرصوري ويتجاوز النحس المتلبّس به. ولا أدلّ على توقه إلى التواصل من تلك الشهوة، بل ذلك الشبق إلى استبطان اللغة المحلية الجليلية، اللغة الشعبية المحكية الحية بصورها وحكمتها الملتبسة وذاكرتها العريقة. هذه اللغة هي بيته الآمن. أما التعلاّت الجنسية التي تنفر في وجهك في كل صفحة وأحياناً في كل سطر، بمناسبة وبغير مناسبة – نادلة المقهى اليمنية اليهودية، جليسته النكرة في أحد مقاهي أية مدينة أوروبية… – فليست سوى تعلّة يلجأ إليها خوفاً من الفعل نفسه. وهل فعل كافكا غير ذلك في حياته؟ هجر النساء وفرّ من الحبّ حتى حين توفّر له، لينزوي في الكتابة وكأنه يكتب لنفسه، ليستمرّ في الحياة، في حياة سرعان ما نفرت منه وهو في عزّ شبابه.
رياض بيدس من سلالة جليليين كثر، منهم حبيبي ودرويش، سيبقى علامة في الأدب الفلسطيني، ولن ينال منه «المحو» وإن غُمط حقّه في عصره الرديء.
صحيفة الحياة اللندنية