زلزال تركيا وسوريا وإعادة تشكيل الرؤية السياسية
استفاق السوريون في كل المناطق على أضخم زلزال في تاريخهم المعاصر، ليكتشفوا، بعد المتابعة المباشرة، أن مركز زلزال لا يبعد عن حدودهم الشمالية أكثر من 70 كم، في رسالة واضحة للجميع، مفادها أن الطبيعة، في قوانينها الصارمة، لا تقف في وجهها أي حدود فاصلة بين الدول، ولا تميّز بين الشعوب، في هوياتها القومية والدينية والمذهبية، ولا تأخذ التباين في الأجناس والأعمار فيما بينهم، وهم يتباينون فيما بينهم، بحكم الإرادات السياسية، بشأن كل شيء، فهل يمكن استخلاص العِبَر لبناء رؤية سياسية جديدة بين سوريا وتركيا؟
كان الدور التركي هو الأكثر وضوحاً وتأثيراً في الحرب على سوريا وفيها، بحكم الحدود الأطول بين البلدين، مقارنةً بحدودهما مع الدول الأخرى، بالإضافة إلى التداخل الديمغرافي بينهما، لكل من العرب والأتراك والكرد، وحتى من تبقّى من الأرمن، وسائر الإثنيات الموجودة في البلدين، الأمر الذي أتاح لهذا الدور أن يأخذ بعداً تدميرياً في الداخل السوري، بالتساوق مع البنية الداخلية السورية الهشَّة، والتي أهَّبت له الفعل المؤازر، ليكتمل الزلزال الكارثي على مدى قرابة إثني عشر عاماً من بدء الكارثة، في أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وما أفرزته من دمار للبنية التحتية السورية ولمدن، بصورة شبه كاملة، بالإضافة إلى الانزياحات السكانية على شكل أمواج من اللجوء السكاني، داخلياً وخارجياً.
وأدّى التاريخ المشترك بين سوريا بلاد الشام وتركيا الأناضول دوراً مهماً في هذه الحرب، بفعل تأثير الهويات التي تشكلت لحركة الديانات والثقافات، وخصوصاً الديانتين المسيحية والإسلامية، الأمر الذي جعل المنطقتين الجغرافيتين فضاءً مشتركاً بينهما، في كل مراحل تعاقب الإمبراطوريات (الآشورية والفارسية والإغريقية والرومانية والبيزنطية والأموية والعباسية والمملوكية والعثمانية)، وهذا ما أتاح للدور التركي الجديد الفرصة كي يؤثر، بصورة عميقة، في بنية المجتمع السوري وانقسامه على نفسه، بعنوان الحرب الأهلية المدمرة للنسيج الاجتماعي السوري.
لم يتوقف الأمر على هذه الجوانب، بل امتدّ أيضاً إلى العمل على الموارد المائية لنهري الفرات ودجلة، اللذين تم العمل عليهما كجامع مشترك بين الجغرافيتين المتشكلتين حديثاً من نحو 100 عام، فتمت عمليات بناء السدود بكثافة عالية خلال العقود الثلاثة الأخيرة، في قطيعة تاريخية، وعلى نحو يمنع كلاً من سوريا والعراق من الاستفادة من حقوقهما القانونية والطبيعية في مياه هذين النهرين الكبيرين، اللذين نشأت على ضفافهما الحضارات البشرية الأولى في التاريخ.
أثبتت الحرب في سوريا وعليها أن ارتداداتها لا يمكن حصرها في الساحة السورية، وأن ثمن العبث بالفضاء المشترك، جغرافياً وتاريخياً وثقافياً، سيرتد على كل المنطقة الجغرافية، التي تُعَدّ مركز العالم القديم، وأن الارتدادات ستأخذ مسارها في كلّ الصدوع، وأكثر ما يتأثر بها هي المناطق الأقرب إلى مركز الزلزال، وهي بطبيعة الحال ستكون الأكثر تأثيراً في تركيا، التي تُعَدّ الأقرب جغرافياً إلى مركز الزلزال السوري، الذي تطاول زمنياً أكثر مما يمكن تحَمُّله من شعوب الدولتين، بل من شعوب المنطقة الممتدة من الهضبة الإيرانية حتى شرقي البحر الأبيض المتوسط.
وتشهد الساحة التركية الارتداد الأكبر عبر انقسام عمودي، سياسياً واجتماعياً، بين الكتل السياسية، كان للزلزال السوري الدور الأكبر في تظهيره، بفعل الارتدادات الاقتصادية، والتي تسببت بتراجع الاقتصاد التركي بصورة كبيرة جداً، والمترافق أيضاً مع سياسات داخلية ساهمت فيما وصلت إليه تركيا، التي تجاوزت مديونيتها 420 مليار دولار.
أتى الزلزال التركي وارتداداته السورية، في لحظة سياسية فاصلة، فضحاياه الأساسيون هم من الأتراك والعرب والكرد، وحتى من الأرمن، ليؤكد أن الكارثة الطبيعية لم تُفَرِّق فيما بينهم، وقواهم السياسية والإدارية تخوض صراعات ومفاوضات مؤثرة في مستقبل المنطقة وشعوبها، وتستطيع، من خلال نتائجها، أن ترسم مسار الصعود للجميع، أو استمرار الكارثة التي تعممت وتوسعت على الجميع، على نحو يؤدي إلى انهيار هذه الدول الحديثة العهد، ومعها شعوبها، وتستطيع أن تُوجد مشتركات للتعاون فيما بينها، بالعودةا إلى الفضاء المشترك، جغرافياً وتاريخياً وثقافياً، والذي يمكن أن يُعَبَّر عنه بعودة جريان نهري الفرات ودجلة بصورة طبيعية ولمصلحة الجميع. والفرصة متاحة الآن، فالكارثة الزلزالية أدَّت رسالتها للجميع، ووفَّرت الفرصة الكاسرة لكل الحواجز النفسية والحقوقية، عبر اتصال هاتفي لقادة البلدين على أعلى مستوى. فإن مثل هذا الاتصال سيكون بمثابة زلزال إيجابي معاكس، يمكنه أن يمهد الطريق نحو مفاوضات تتيح لسوريا استعادة كل أراضيها المحتلة، لتشق طريقها نحو سوريا جديدة بكل أبنائها المؤمنين بها. فهل يجري هذا الاتصال؟