كتب

‘زمن خليل أبو زيد’ تأريخ الروح المصرية بمذاق الفن

‘زمن خليل أبو زيد’ تأريخ الروح المصرية بمذاق الفن … غاصت الكاتبة دكتورة قدرية سعيد في تاريخ مصر المعاصر لتخرج لنا بهذه الدرة الفريدة، وتقدمها بصيغة روائية ذات مسار زمني حكائي خطي.

ولدى النظرة الأولى يمكن تصنيف الرواية “ترجمة تاريخية فنية” وهذا صحيح في جانب، ومن جانب آخر نجد إحاطة الخلفية الروائية وتشربها بالفترة التاريخية المفصلية المصرية الصميمة زمن خليل أبوزيد، وقائع ثورة 1919، في جلالها وتضحياتها، والعوامل الثقافية والاجتماعية والسياسية التي شكلتها وابتعثت وهج النضال، والروح الثورية المصرية في رحابها.

وجاء عنوان الرواية ليصف التضمين الروائي بدقة من خلال تقديم السيرة الروائية النضالية لأحد أعلام الحركة الوطنية في صعيد مصر الدكتور خليل أبوزيد، لتقدم الرواية بطل الظل الكبير الذي قبع في أضابير التاريخ ينتظر التعريف بدوره البطولي، وروحه المصرية الثائرة، ويأتي الإنصاف الروائي، من خلال التوظيف ‏التاريخي في الحدث الروائي، ليس فقط بكون التاريخ إطارا للرواية وخلفية لها، بل أيضًا جوهرا للفعل الإنساني في الرواية، من خلال وظيفة التأريخ بمذاق الفن، بالتنقيب عن حدث تاريخي مهم، يشير للمقاومة الشعبية في صعيد مصر.

ورغم ذلك لم تنزلق ‏الرواية للجو المعاصر فتمسخ الجو التاريخي، فنجد انتقاء الأسماء للشخصيات والأماكن وتقاليد هذه الحقبة التاريخية في الفضاء المكاني المحدد ‏بالرواية بما يمنح دال إحاطة الروائية بموضوع الرواية جيدا

وتحرر الروائية منذ النص الموازي الأول في الرواية الصلة بين الحدث التاريخي والخيال الروائي: “الرواية مزج بين الخيال والحقيقة، فالخيال يشغل مساحة محدودة من العمل بينما تشغل الحقيقة المساحة الأعظم ولو أنها أغرب بكثير من الخيال”، بما يعني توجيه الضوء نحو مسئولية ثقافية مهمة، يجب أن يرتاد رحابها الأدباء وكتاب الرواية خاصة، ويتحملوا –كما فعلت الروائية- مسئولية وطنية فكرية تقع على عاتقهم، بالتنقيب في أضابير التاريخ عن النماذج الإنسانية الوطنية التي تمثل الروح المصرية النبيلة، وتجلي أمام القراء بطولاتها المنسية، وتحتفي بقدرها الرفيع، ودورها الرائد في صناعة التاريخ المصري المعاصر.

فالتاريخ وسيلة حماية لأنه يُبْصِر بالهوية، ويؤسس صوبه ذات هواء نقي للشخصية الوطنية تدفع عنها غارات مسمومة تحيل هذه الشخصية مسخًا مفزعًا سرعان ما يموت غير مأسوفًا عليه.

ولا يعني مساهمة الروائية في إنتقاء الحدث التاريخي الإنغلاق عن معطيات الحياة المعاصرة، أو نفي التفاعل مع جديد الأفكار والعلوم، بالعكس، فقد وقع اختيارها علي نموذج إنساني احب وطنه أعمق الحب، وظل على صلة عميقة بنبضات واقع مصر الأليم تحت مظلة الاحتلال البغيض، كما كان يكتسب العلم في لندن وفي مجال الزراعة المهم لتنمية وطنه المصري الكريم.

تقول الرواية عن خليل في بلاد الغربة: “تعلم اللغة الإنكليزية بإتقان في مدارس بلده، درس الزراعة، كان قلقا على المصدر الرئيسي لقوت الفلاحين وأرزاقهم، جاء إلى هنا وتخصص في دراسة الأمراض النباتية أحد أهم المشاكل التي تهدد الإنتاج الزراعي في منطقة الصعيد بل في مصر كلها وتؤدي إلى خفض جودة المنتج الغذائي وإفراز السموم الفطرية التي تسبب أمراضا خطيرة ومتعددة تصيب الإنسان والحيوان معا، ومن أهمها مرض الصدأ الأصفر الذي يصيب محصول القمح، ومرض العفن الأسود الذي يتسبب في أسوداد مساحات كبيرة لزراعات القطن، وغيرها من الأمراض التي تصيب الخضر والفاكهة”.

ويلمس القارئ لدى مطالعة النص الروائي مدى الكدح الثقافي المعمق الذي بذلته الروائية، وأعتقد أنها لم تترك مصدرًا متاحًا، أو مظنة لإجتناء المعلومات التاريخية إلا وطرقت بابها.

والدليل على هذا العبارة التوثيقية الأخيرة في الرواية: “أقل ماتم تقديمه لتلك الثورة، تسجيل أسماء شهدائها على نصب تذكاري لتخليدهم وأول الأسماء الدكتور خليل أبوزيد، ويكون يوم 18 مارس من كل عام عيدا قوميا لمحافظة المنيا، ذكرى ثورة ديرمواس.ومازال مسجد أولاد محمود مضيئا يجلجل آذانه في كل موعد ومازال قصر أو دوار أبوزيد بك علي حاضرا، حيا، شامخا يحكي الحكاية على مر السنين مطالبا بفتح غرفه المغلقة التي سوف تفتح أبوابها ذات يوم، وربما لم تفتح أبدا”، والنص دال على مقاربة الروائية الميدانية لجغرافيا الرواية.

بالتالي لم تكن الرواية مجرد سيرة روائية للبطل د. خليل أبوزيد، بل كانت رصدًا ووثيقة أدبية للعصر ذاته، لذلك حملت الرواية عنوانين، الأول “بلد الدم والعسل” دال الحدث التاريخي المحدد، والعنوان الثاني “زمن خليل أبوزيد” دال الشخصية والعصر في آن واحد، فتحقق الوفاء للحدث التاريخي في مصادره الصحيحة، ثم قام النسيج الروائي بتغطية البعد الثالث للشخصية التاريخية –كما اشتمل درس النقد الأدبي في مجال الأدب التاريخي- والذي يتناول الجانب العاطفي الضلع المهم في منظومة التأريخ الأدبي الثلاثية (الزمان/المكان/الإنسان) باعتبار منتج هذه المنظومة وثيقة اجتماعية لعصر بذاته، إضافة لكونه وثيقة جمالية في الأساس.

كما تصرفت الروائية بتقديم مجموعة من الشخصيات الثانوية جسدت التضحيات والعطاءات في رحلة التاريخ بالرواية، منهم حسني رفيق خليل الذي ينقل تحيات رفيقه في إحدى حلقات النضال بالعاصمة: “أستأذن منكم أن تسمعوا صوت الآتي إليكم من الصعيد وأبلغكم تحيات أخي وصديق الطفولة خليل أبو زيد، إنه يدرس الزراعة في لندن، لكنه الغائب الحاضر، غائبا بجسده وحاضرا بشوقه ومتابعته لكل أحداث وطنه حزينا من الظلم الذي يكتوي به، يحلم بيوم العودة والمشاركة معنا في ثورتنا على الإنكليز”، وبالفعل حضر الفدائي –ولم يكن غائبًا- ليساهم مباشرة في الحدث الثوري الكبير “من الدار إلى النار” بتعبير الرواية، ويقدم الدم فدية لوطنه العزيز.

وحقق النسيج الروائي قصديته بشكل مباشر بدون تقعر، أو تفكيك وإعادة تركيب مكثف للحدث والزمن الروائي لكن من خلال شخصيات كثر، ورصد دقيق بتفاصيلة الاجتماعية والثقافية للمجتمع المصري حينها، وظروفه الصحية والاقتصادية المتعثرة، ومحنة البسطاء من أهالي الصعيد مع المرض القاتل، والفقر المدقع، ورصد الواقع السياسي المختنق، واستبداد “الاستخراب” المتعالي البغيض، وبرؤية واضحة للعطاء الوطني لأبطال المقاومة في الزمن الكريم.

كما لمست الجوهر النبيل للطبيعة المصرية المتألقة في زمنها الذهبي”زمن خليل أبوزيد، لذلك أرى أن الرواية مهمة لمطالعة الأجيال الناشئة لأسلوبها السهل الممتنع، وموضوعها الأثير الذي بعث الضوء على هذه الشخصية التاريخية بملامحها النفسية، ونجواها الذاتية، ووطنيتها المتألقة، كما بعثت ضوءا حول جغرافيا الصعيد الثائرة، عسى أن تعيد الأجيال الشابة الوهج الخافت في الطبيعة المصرية النيرة المعطاءة الأبية.

وبالطبع يصعب الإلمام بسائر عطايا الموضوع وفنه الروائي، إنما يكفي الإشارة السابقة لأمثلة يسيره من الأفق الروائي، كما نشير لعطايا أخرى:

التطعيم العاطفي بحب “ماري” الإنكليزية لخليل ونبله وتنصلها من عدوان حكومتها الآثمة، وتضحية خليل بالتنعم في ظلال وطنها ومحبتها فداء لوطنه الغالي، وكذا الخيط العاطفي من “تفيدة” الفتاة المتعلمة الصعيدية، وحبها لخليل وحب خليل لها، دون أن يربط الزواج المأمول بينهما، بعد أن عصف الظلم المبين بحياة البطل الشهم

وكذا مشهدية روائية جيدة للحدث الروائي الرئيسي في موقعة قطار ديروط ودير مواس، ومقتلة الوطنيين وثأرهم بقتل مستر “بوب” مدير سجون الوجه القبلي وسبعة من ضباطه، ثم تدفق الحكي للمحاكمات الآثمة، وأحكامها الجائرة، لتصل الرواية إلى خاتمة إنسانية مؤثرة.

حيث اصطحب القارئ شخصية د. خليل أبوزيد وتفاعل معها وتأثر بها، لذلك يستشعر القارئ الوحشة، ويحس بغصة وغضب من الظلم المبين الذي لحق بها، ثم يقف في شعور مبهر من إجلال أمام عظمتها خلال مسيرة الحياة، ويعجب من ثباتها قبل الترقية للسماء.

تقول الرواية عن العمدة الكبير أبوزيد وهو يتعذب حتى النهاية: “عندما طلب أبوزيد علي من أبنائه أن يحضروا له جثة خليل، ذهبوا إلى حيث نفذ حكم الإعدام، حاولوا، استحلفوا قائد السجون الإنجليزي، لكن كان القرار بعدم تسليم جثث من تم الحكم عليهم بالإعدام، يعلم الحاكم العسكري الإنكليزي أن تسليم الجثث لن تنتهي بسلام بل من المؤكد أن تؤجج المشاعر في ثورة جديدة لا يعرفون مداها، وقد تتحول مدافن هؤلاء الشهداء إلى أيقونات ومزارات جماعية قد تتصاعد في اشتباكات جديدة بعد إخماد الثورة بالآلة المسلحة وبالإعدامات الجائرة. عاد أبناء العمدة منكسين الرأس، أخبروه بفشل محاولتهم لإحضار جسد أخيهم. ماتت الأم من الحسرة، وبعد أيام قليلة مات الأب بفجيعته في ولده”.

ومع الخاتمة تلهج الألسنة والقلوب بالدعاء بالرحمة على آل أبوزيد علي ورفاقهم، كما تثني الأفئدة على الفن الروائي للروائية والذي عمد لتجلية هذه الصفحة المشرقة من تاريخنا المصري.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى