زياد أبو عين وثلاثيته الأثيرة

حين سمعت خبر اغتيال الوزير الفلسطيني زياد أبو عين عدت إلى ذاكرتي محاولاً استنفار ما اختزنته بخصوص هذا الاسم الذي كان رنينه عالياً منذ اعتقاله في أواخر العام 1979 في الولايات المتحدة، وتسليمه لاحقاً إلى “إسرائيل” بتهمة مشاركته في عملية فدائية في طبريا، أدّت إلى مقتل إثنين من المستوطنين يومها . وعاد اسم زياد أبو عين ليملأ الأسماع والشاشات التلفازية ومواقع الإنترنت حين أقدمت السلطات “الإسرائيلية” على ضربه حتى الموت وهو يحاول غرس شجرة زيتون في أرض قرية فلسطينية يريد الاحتلال استيطانها . وقالت مصادر الطب العدلي إن سبب الوفاة هو عمليات الضرب الشديدة التي تعرّض لها ففارق الحياة .

يومها حوكم زياد أبو عين في شيكاغو وتقرر ترحيله، وكان عمره آنذاك لم يتجاوز ال 19 عاماً على الرغم من مناشدات ومطالبات عربية ودولية حقوقية كي لا يسلّم إلى “إسرائيل”، ولكن كل تلك الاحتجاجات والمخاطبات ذهبت أدراج الرياح، حين أقدمت الولايات المتحدة على تسليمه وتشكلت حينها لجنة للدفاع عنه، وهو ما أعاد استذكاره داوود عمر داوود مراسل صحيفة “الرأي” الأردنية آنذاك، الذي كان على اتصال به في السجن قبل ترحيله وأجرى مقابلات معه وكتب عنه .

كان زياد أبو عين قد اضطرّ إلى مغادرة رام الله وتوجّه إلى عمّان ومنها سافر إلى الولايات المتحدة، لكن القدر كان بانتظاره هناك، حين اكتشفت سلطات الاحتلال انخراطه في عمل مقاوم في طبريا، فقامت بملاحقته بعد معرفة مكانه . كان للجنة الدفاع عنه فاعلية كبيرة حيث وصلت أخبار أنشطتها وفاعليات التضامن مع زياد أبو عين إلى بلدان المنطقة، فتحركت قوى فلسطينية وعربية بالاتجاه ذاته، ورفعت الصوت عالياً للدفاع عنه، وبحكم روابطي الفلسطينية الوثيقة، كتبت مقالة للدفاع عن زياد أبو عين نشرتها في حينها في صحيفة “14 أكتوبر” اليمنية، في العام ،1980 وفيها إضاءة قانونية دولية حول موضوع تسليم المجرمين وما ينطبق ولا ينطبق على حالة زياد أبو عين، مذكّراً بحق المقاومة المشروع باستخدام جميع الوسائل لطرد الاحتلال ومن أجل حق تقرير المصير .

كانت المطالبات العربية والمناشدات الحقوقية تنصب بالدرجة الأساسية على عدم تسليم زياد أبو عين إلى “إسرائيل” خصوصاً أن قضيته كانت منظورة أمام القضاء الأمريكي، حيث سلكت جميع خطوات التقاضي المعروفة، لحين صدور الحكم بتسليمه، وعند تسليمه أودعته سلطات الاحتلال “الإسرائيلي” السجن، بعد صدور حكم بحقه بالمؤبد، وهو ما كانت تخشاه الجهات الفلسطينية والعربية والدولية الحقوقية، لأنها تدرك قسوة الاحتلال وردود فعله وكيديته .

وكان من المؤمل الإفراج عن زياد أبو عين في العام 1983 في عملية تبادل للأسرى، وكان اسمه فعلاً على قائمة “فتح” ضمن لوائح التبادل، وقد وصل فعلاً إلى مطار اللد ولكن “إسرائيل” حاولت خداع الصليب الأحمر الدولي الذي اعتقد أنه غادر مع المغادرين من الأسرى إلى القاهرة في طريقهم إلى الجزائر، واتضح أن السلطات المحتلة أعادت “اختطاف” زياد أبو عين في غفلة من اللجنة الدولية للصليب الأحمر التي لم تفلح جميع جهودها في الإفراج عنه . ولكن أطلق سراحه لاحقاً في عملية تبادل الأسرى التي تمت في العام ،1989 بعد أن قضى في السجن نحو عشر سنوات، ليبدأ مرحلة جديدة في نضاله السلمي والمدني ضد الاحتلال والاستيطان وبشكل خاص ضد جدار الفصل العنصري .

جدير بالذكر أن قيام زياد أبو عين بعملية طبريا لم يتم الكشف عنه الاّ بعد بضعة أشهر، وذلك حين غادر إلى الولايات المتحدة، حيث جرت ملاحقته، فقام بتسليم نفسه . واستطاع زياد أن يحوّل المحاكمة إلى مقاضاة للاحتلال، خصوصاً وهو يتحدث الانجليزية بطلاقة كبيرة وباللهجة الأمريكية، لأنه مولود في الولايات المتحدة، ولكن الجهود جميعها لم تفلح في منع السلطات الأمريكية من تسليم زياد أبو عين إلى سلطات الاحتلال “الإسرائيلي” بضغوط واسعة قام بها اللوبي الصهيوني، حيث تحوّلت القضية إلى مسألة سياسية .

لقد صمم زياد أبو عين على مواصلة كفاحه السلمي بعد خروجه من السجن وقبل استيزاره من جانب السلطة الوطنية الفلسطينية مجسّداً الثلاثية الفلسطينية المتمثلة في الهوّية والمكان وشجرة الزيتون، ذلك أن تمسّكه بالهوّية يعني مقاومته محاولات طمسها أو تذويبها، كما أن تمسّكه بأرضه يعني مقاومته لمحاولات الاستيطان وتزوير التاريخ، مثلما أن تمسكه بشجرة الزيتون يعني مقاومته محاولات التجريف والاستيطان، وهو ما كان الرئيس ياسر عرفات يعبّر عنه في خطابه إلى العالم، لاسيّما وهو يدخل إلى الأمم المتحدة وبيده غصن الزيتون من دون أن ينسى بالتذكير بأن في يده الأخرى بندقية .

إن محاولات “المحتل الإسرائيلي” محو الهوّية وإجلاء سكان البلاد الأصليين وتجريف أرضهم، إنما هو إدراك منه، بأن الفلسطيني مثل زياد أبو عين حتى حين يموت يحمل معه غصن زيتون، ويرفع يده عالياً ملوّحاً ب “إشارة النصر“، ولا ينسى أن يحمل معه علماً فلسطينياً ومفتاحاً صغيراً في سلسلة، ليقول إنه من فلسطين وعائد إليها . هكذا يتمسّك الفلسطينيون بحق العودة، وبالقرار 194 لعام ،1948 مثلما يتمسكون بالقدس عاصمة لدولتهم الوطنية المنشودة وفقاً لحق تقرير المصير .

وإذا كان استهداف هذه الثلاثية الفلسطينية الأثيرة من جانب الصهيونية باحتلال الأرض والسوق والعمل منذ العشرينات، فإنها اتّخذت شكل مصادرة الأرض وإجلاء سكانها الأصليين ومحاولة اقتلاع ما تبقى منهم، لاسيّما بمشروع الدولة اليهودية النقية، في محاولة لإرغام العرب على خيارات أبسطها يكاد يكون مستحيلاً .

إن اغتيال زياد أبو عين الوزير والأسير والقدير، إنما هو استهداف لهذه الثلاثية، فقد كان أبو عين يريد أن يعلن للعالم أجمع كيف يمكن للإنسان أن يتمسّك بأرضه ورمزها الزيتون وبهوّيته العربية ودلالتها الأساسية اللغة والدين لا من باب الاعتباط أو الزعم، بل لأنها تمثل كينونة وجوده، وصيرورة كيانيته ومستقبله بكل تجلّياته الإنسانية .

ومثلما حمل زياد أبو عين روحه وطاف بها من سجن إلى سجن وصولاً إلى استشهاده، فإن هذه الروح أزهرت أشجار زيتون حتى في سجنها، وتفرّعت أغصانه، حبّاً وجمالاً ومقاومة ومستقبلاً، في بلاده الولاّدة، التي لا يتورّع المغتصب عن تزوير كل ما فيها، حتى برتقال يافا ظل يختمه بماركة مزيفة، ويستولي على الأزقة العتيقة في القدس، في محاولة لتغيير تركيبها الديموغرافي وآثارها وتراثها، ويستمر في أعمال الحفر تحت وحول المسجد الأقصى وملحقاته، ويخترع القصص والأساطير، بل وينسج الحكايات التي بعضها من صنع الخيال، حول الأحقية التاريخية .

حين سقط زياد أبو عين مضرجاً بدمائه اختار المكان، “البئر الأولى” حسب جبرا ابراهيم جبرا، أرض قريته، وهو يحمل غصن الزيتون الرمز الأخضر لبلاد خضراء ومزاج أخضر وعين لا تعرف الاّ الأخضر، اللون العروبي الأصيل . في البئر الأولى يتم التشكّل الأول للذاكرة وما استقر فيها من تفاصيل ولم يكن من الممكن محوها أو التجاوز عليها فقد حفرت في القاع .

زياد أبو عين الذي اجترح العذابات كلّها لأنه لا يريد أن يغادر المكان، إذْ إن فلسطين بالنسبة إليه هي النور الذي لا يريد له أن ينطفئ حتى لو أطفئت روحه . إن ذلك، صيحة ضد الاغتصاب والاقتلاع والمصادرة والاستيطان . ولعلّ ذلك ما تخشاه قوى التعصب الصهيوني، لأنها أدركت مدى تمسّكه بالأرض والهوّية ورمز فلسطين ومقاومته بناء الجدار العنصري، الذي أدانته ودعت إلى هدمه محكمة العدل الدولية في فتواها الاستشارية .

الهوّية تتوحّد أحياناً مع رمزية المكان في إطار هارموني متناسق، وهو ما استهدفه المحتل عند اغتيال زياد أبو عين، وهو اغتيال داخل المكان، مثلما يمثل الترحيل والإجلاء الاغتيال خارج المكان، بالتجريف والإبعاد وقطع الجذور الأولى ومصادرة الحقوق بالاستيطان والإلغاء، ولعلّ ذلك كان عنوان كتاب مهم لمثقف مهم ومناضل مهم هو إدوارد سعيد الذي أدركت الصهيونية خطره عليها منذ كتابه “الاستشراق” الذي صدر في العام 1978 .

زياد أبو عين كان نموذجاً لثلاثية لا يمكن فصم عراها: الهوّية والزيتون والمكان، وهي الثلاثية الأثيرة التي ظلّ إدوارد سعيد متشبثاً بها حتى الرمق الأخير .

صحيفة الخليج الاماراتية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى