
لست متأكدا تماماً من رضا زياد على طريقة وإخراج وأسلوبية تشييعه إلى مثواه الأخير. ربما أعجبه الانطلاق من شارع الحمراء. ووقوف محبيه لساعة حزناً عليه أمام مقاهي وبارات هذا الشارع الذي قضى فيه وعبره معظم حياته. أما رضاه عن قداس الكنيسة وعمن حضر من المسؤولين السياسيين والفنانين المشاهير فهذا ما لا يستطيع أن يجزم فيه أحد. لأن المعروف عن زياد رفضه لكل هؤلاء من أصحاب المناصب الذين نعتهم طيلة حياته بالنصابين، والشراميط، و(قرطة حرامية) ومجرمين، تشاركوا مع امراء الطوائف وجنرالات الأديان، مسلمين ومسيحيين تشاركوا في إدامة اشتعال الحرب الطائفية التعصبية حتى الآن، وإلى أجل غير مسمى، كما أوضح زياد اكثر من مره. وربما كان رضاه وراحة نفسه الحقيقية بما فعله الناس العاديون الذين تجمهروا على جانبي طريق موكب الجنازة وبعضهم رشه بالأرز، وكلهم حيوه بالدموع. ولابد من أن وجود أصدقائه ورفاقه وأحبابه كان مما يخفف عليه رقوده في التابوت المحمول. وأقول لزياد (بسيطة! عليك قبول هؤلاء في تشييعك، خاصة وإنهم يبذلون أفضل ما يستطيعون ليكفروا عن أعمالهم في حضرة انتقالك إلى ملكوت أعلى، مع دوام وخلود انتقادك لهم، وهجائك لافعالهم، واحتقارك لخياراتهم، التي أودت بلبنان الجميل إلى أن يصبح لبنان الجحيم. وهو نموذج لمآلات تحيق بدول عربية كثيرة.
يسجل للبنان مجتمعاً ونخباً انه اجتمع معلناً تقدير زياد، ولو عند موته. ويسجل للبنانيين حكاماً وساسه ومثقفين وفنانين، وأناس عاديين وشعب كادح، ومؤمنين وكافرين، ويسار ويمين، وعروبيين وانعزالين. يسجل لجميع لبنان ولكل اللبنانيين أنهم خرجوا في تشييع هذا المبدع الذي لم يترك لحظة من إبداعه إلا وانتقدهم فيها. ولم يمرر نغمة إلا و هجاههم بلحنها. ولم ينتج كلمة إلا وفضحهم عبرها. ومع ذلك، فقد خرجوا حزانى على فراقه. ومشوا وراء نعشه مصابون بفقده كمبدع. يبدو يا زياد إنك تخجل حتى من أن تنتقدهم وتشعرهم بذنبهم وتحفز فطرة الضمير لديهم، فيحزنون بحرقة عليك، ويجتمعون على تكريمك وتقديس فنك. انه الشعب اللبناني الذي عملت من أجله يا زياد. الشعب الذي عشت بينه وهو يحارب بعضه بعضاً، ويقتل بعضه بعضاً.
طيلة حياته حاول زياد معالجة مصائب بلده بالإبداع. ومنذ نشأته عرف وفهم ومارس حقيقة أن (لا إبداع بدون نقد). وهذا ما جعله “المبدع الحق”. انتقد اهله، وخاصة والده في فنهم، وانتقاده جاء مجسداً بإبداع يكشف ويعري ويخلق البديل. كان فنه نقدا لفن اهله الذي جمل الواقع. وكاشفا لعيوب وبلاوي هذا الواقع. وكان ملهما للارتقاء، ومحفزا على التجاوز، ومقنعا عبر مستويات الجاذبية المدهشة التي لا تنتهي في إبداعه. فن زياد له قلب من بطينين. واحد ناقد للواقع، وثان جاذب مدهش بفنيته ومعرفيته واحساساته العميقة. وعلى جناحي النقد والجاذبية خلق فنا رؤيويا يستشرف المستقبل، ويتطلع إلى آفاقه. وبذلك أكمل بساطته، وعمق تجذره بالحياة والناس ليصبح مستحقا للخلود بحق. ولذلك لابد أن تصبح أغنيته من الآن فصاعدا (مش عايشة الدنيا بلاك. وبلا فنك يا ولد). وبالفعل سينقص العيش بدونك، وستتشوش الحياة بدون فنك. ولك كل الحق أن تسخر من حالنا، وانت في سماواتك. ولا عتب عليك إذا شمت بنا أو استهزأت بحالنا، مع إنك لم تفعلها طيلة رحلة عذابك المسماة ب (الحياة).
زياد عتبنا عليك إنك رحلت عنا وما زالت (الحالة تعبانة. . كتير كتير). ونعتب عليك لأننا نفتقد من يستحق عتبنا. فالحكام يزيدون الحالة التعبانة بؤساً، ومندوبي الله من امراء الدين ورجاله يقدسون الحالة رغم معرفتهم أنها “تعبانة بشكل كافر”.
معك كل الحق يا زياد أن ترفض العلاج، وأن تترك الموت يتسلل إلى جسدك. فأنت الرائي والمستشرف للحال التي باتت علاجها صعبا وشاقا أكثر من الموت بستين ألف مرة.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة