زيارة ابن فرحان لطهران تزعج واشنطن: الضمانات الصينية تسبق المغريات الأميركية
حسين إبراهيم
مع زيارة وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، لطهران، يُقطع الشك باليقين بأن قطار التقارب بين البلدين الذي انطلق من بكين، يسير بسرعة تفوق ما كان متوقّعاً له، على رغم المحاولات الأميركية الحثيثة للعرقلة، سواء عبر الدخول على خط المفاوضات في اليمن، بدعم محاولات الإمارات لفصل الجنوب، وبترويج شائعات عن أن إيران تواصل تسليح حركة «أنصار الله»، في انتهاك لاتفاق بكين، أو عبر تسريب توقّع الوصول إلى اتفاق لتطبيع العلاقات بين الرياض وتل أبيب يلبّي «المطالب» السعودية (التي سرّبها الأميركيون أيضاً) حول مساعدة المملكة في امتلاك برنامج نووي سلمي وبيعها أسلحة متطورة، بنتيجة زيارة وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، الأخيرة للمملكة، أو من خلال الدفع بأنصار أميركا في المعارضة السعودية إلى شن هجوم على مواقع التواصل الاجتماعي، هدفه تقديم التوجه السعودي الجديد على أنه «خضوع مذلّ» للمشيئة الإيرانية.
ما تفتقد إليه المحاولات الأميركية، هو أن الثقة السعودية بواشنطن مفقودة تماماً، ليس فقط بسبب التوتر القائم في العلاقات بين هذه الإدارة وبين ولي العهد، محمد بن سلمان، وإنما بعدما ثبت بالتجربة للسعوديين أن أميركا ليست قادرة ولا راغبة في الدفاع عنهم، وهو ما ينطبق أيضاً على إسرائيل. وهذا ما يدفع الأميركيين أنفسهم، إلى إعطاء حظوظ التوصل إلى اتفاق للتطبيع مع إسرائيل بحلول نهاية العام الجاري، 50% فقط (حسب صحيفة «نيويورك تايمز»). لكن أكثر ما يزعج الأميركيين في التحركات السعودية نحو إيران، والتي شملت الإعلان عن فتح سفارة المملكة في طهران وقنصليتها في مشهد خلال الأيام المقبلة، وواكبها كلام سعودي كبير عن الاستثمار في إيران، هو أن كل ذلك يحصل تحت ظلال ضمانات صينية، مفتوحة على ترتيبات أمنية وعلاقات اقتصادية بين دول المنطقة، لم تعُد واشنطن قادرة على توفيرها. فما يجري في المنطقة بمعنى ما، هو صراع توفير ضمانات بين الصين والولايات المتحدة، يظهر من خلاله أن النموذج الذي تعرضه بكين للتعاون الاقتصادي كأساس لتثبيت التقارب، يتفوّق على النموذج الأميركي الذي يقوم على إثارة الفتن، ومن ثم عرض الحماية على الطرف الحليف، بكلفة اقتصادية وسياسية كبيرة. ولعل هذا التفكير الأميركي عكسته مجلة «فورين بوليسي»، عندما توقّعت أن لا يذهب الاتفاق السعودي – الإيراني بعيداً، نتيجة ما وصفته بتجذّر الخلافات السياسية والطائفية بين الجانبين.
ما تقدم هو ما يفسّر الحماسة السعودية، التي فاجأت كثيرين، لتعزيز العلاقات مع طهران. ويبيّن التدقيق في القرار السعودي بإطلاق ما يمكن وصفه بعملية «غزو استثماري» نحو إيران، أنه ناجم عن مصلحة سعودية خالصة، سياسية واقتصادية (بمعنى تحقيق عوائد مادية على الاستثمارات نفسها). فلا يمكن للرياض نفسها أن تكون مركز أعمال ومال إقليمياً عالمياً كما تقضي «رؤية 2030»، ما لم تكن إيران مزدهرة هي الأخرى، وهذا يتطلّب ترتيبات أمنية تشمل الخليج كله، بحيث لا تعود الضفة الأخرى منه تمثل تهديداً لأمن إيران، عبر القوات الأميركية أو من خلال إقامة تحالفات أمنية وعسكرية مع إسرائيل. والاقتصاد الإيراني المكبّل بعشرات السنوات من الحصار، يوفر فرصاً استثمارية مجزية، والرياض مؤهلة للاستفادة منها، بسبب امتلاكها احتياطات مالية ضخمة أمكن لها مراكمتها خلال السنوات الماضية بفضل ارتفاع أسعار النفط. والكلام حول هذه الاحتمالات يسابق التقارب السياسي، إذ دخل في تفاصيل من مثل ما تحدّث عنه أحد المسؤولين الإيرانيين من أن اتفاقاً لاستيراد الطائرات التجارية عبر المملكة، يجري وضع اللمسات الأخيرة عليه.
لكن ذلك كله لا يفك تماماً الطلاسم حول ما يمكن للولايات المتحدة أن تذهب إليه رداً على ما يجري. فمن المبالغة الاعتقاد بأن أميركا أُسقط في يدها، وفقدت تأثيرها على مجريات الأحداث في منطقة ظلّت تهيمن عليها بشكل أحادي لعشرات السنوات، حتى في عزّ الحرب الباردة قبل انهيار الاتحاد السوفياتي. وهنا يمكن طرح أسئلة عن الإمكانات المتوفّرة لدى السعودية لتحدّي العقوبات الأميركية المفروضة على طهران، وضخ استثمارات كبيرة فيها، على رغم أن المملكة أظهرت في الأشهر الماضية أنها تملك هامشاً أكبر من غيرها في هذا المجال بسبب حاجة العالم إليها لتحقيق قدر من التوازن في أسواق الطاقة. فقد تكرّر أن هددت واشنطن بفرض عقوبات على الرياض خلال السنوات القليلة الماضية، وعجزت عن الفعل. أكثر ما يمكن أن تراهن عليه الرياض التي تعرف تماماً كيف يجري اتخاذ القرارات في واشنطن، هو فترة السنة ونصف السنة المتبقّية من ولاية الرئيس الأميركي، جو بايدن. ففضلاً عن أن السياسة الخارجية الأميركية تلقّت ضربات شديدة في هذا العهد، نتيجة خطأ الرهان على توريط روسيا في أوكرانيا (الواقع أن أميركا والغرب هما من تورّطا في هذه الحرب)، فإن بدء الحملة الانتخابية الأميركية يشلّ تلك السياسة تماماً (يلاحَظ التراجع من تهديد السعودية في بداية الولاية، إلى استجدائها الآن).
ما هو أكيد، أن المشروع السعودي لتوسيع النفوذ في الشرق الأوسط، وحتى القيام بدور عالمي، انتقل تحت قيادة ابن سلمان من اتخاذ التوترات والحروب بالوكالة سبيلاً إلى ذلك، إلى الاعتماد على الذراع المالية الطويلة للمملكة والدول التي تدور في فلكها في الخليج، في ضوء مراكمة الثروات. وإذا كان في السابق يجري تدوير البترودولارات ليعاد استثمارها في الغرب، من خلال صيغة العلاقات القديمة، فإن الأسس الجديدة للعمل تحتاج إلى استثمارات في أسواق المنطقة. وهذا ما يحصل من خلال الهجوم الاستثماري السعودي في العراق أيضاً. ومع ذلك، قد لا يكون حلّ الملفات بين السعودية وإيران بالسهولة واليسر اللذين يتوقّعهما كثيرون، لكن ما يحمي هذا المسار هو أن الرياض لا تملك خياراً آخر، إذا ما أراد ابن سلمان المضي في مشاريعه التي يرتكز عليها نظامه. وذلك ثبت بالتجربة القاسية لسنوات التوتر، منذ قطع العلاقات مع إيران عام 2016، وما تخلّلها من تحول اليمن إلى كابوس سعودي، حين صارت الأراضي السعودية كلها مكشوفة أمام القصف اليمني.
صحيفة الأخبار اللبنانية