«سأبقى هنا»… الحرب في مرآة التهجير القسري
على الرغم من أن رواية سأبقى هنا تحكي عن قبح الحرب، وما تخلفه من محاولات التهجير القسري بعيداً عن حضن الوطن الأم، فإنها تجسد ذلك بسردية شديدة الجمال، ومفارقات إنسانية، تفضح مناخات الحرب وأجواءها الكابوسية المرعبة.
ووصفت الصحافة الأجنبية الرواية بأنها «مرسومة ببراعة، هادئة لكنها تدمر القلوب» وبأنها «عمل تاريخي عن تأثير الأحداث غير العادية على الناس العاديين»، مع التأكيد على أن «أسلوب المؤلف غير المتكلف يزيد من حدة القصة المبنية على أحداث حقيقية».
الرواية تحمل عنوان «سأبقى هنا» للكاتب الإيطالي ماركو بالزانو، صدرت في القاهرة عن دار «الكرمة»، بترجمة عن الإيطالية للكاتبة والمترجمة أماني فوزي حبشي. تمزج الرواية
بالخيال، في قصة قرية إيطالية جبلية تمنحها طبيعة المكان الخلابة حالة شاعرية، لكنها مع ذلك ذات مصير مأساوي في مواجهة الحرب. فعندما تصل المعارك إلى أعتاب بقعة ما من موقعها الفريد أو يحدث فيضان يفر السكان، على الأقل يفعل ذلك معظم الناس، لكن ليس من بينهم «ترينا»، بطلة العمل.
في عام 1939 تواجه القرية الواقعة في إقليم جنوب التيرول في إيطاليا أصعب تحدٍّ لها، إذ تخّير حكومة موسوليني الفاشية السكان الذين يتحدثون الألمانية بين الهجرة إلى ألمانيا، أو البقاء في إيطاليا بوصفهم «مواطنين من الدرجة الثانية». تختار المعلمة «ترينا» مع زوجها «إيريش» قريتها ومنزلها وعندما يمنعها الفاشيون من العمل تستمر في التدريس للأطفال سرّاً في الأقبية والحظائر. وحين تقرر الحكومة بناء سد سيغرق المنازل والحقول تقاومها «ترينا» بكل ما تملك، وتحشد من أجل ذلك كل طاقتها لمواجهة حرب تحاول أن تقتلعها بالقوة من جذورها.
إنها رواية دافئة ومكثفة لا تقدم لنا فقط تاريخ مجتمع صغير أمام كارثة كبرى، وإنما ترسم لنا أيضاً ببراعة شخصية امرأة عادية قاومت بشجاعة وثبات قوى الشر التي تحكمت في مصير العالم.
يشار إلى أن المؤلف ماركو بالزانو، يعمل في مدينة ميلانو مدرساً للأدب في مدرسة ثانوية ومحاضراً، وحصدت أعماله كثيراً من الجوائز الأدبية، وتصدرت روايته الرابعة «سأبقى هنا» قوائم الكتب الأكثر مبيعاً، وحازت أكثر من 10 جوائز مهمة، كما ترجمت إلى عدة لغات، وهي الرواية الأولى من أعماله التي تنشر باللغة العربية بعد ترجمتها. وُلد الكاتب الإيطالي عام 1978، ويشارك بانتظام بمقالة في الصفحة الثقافية لجريدة «كورييره ديلا سيرا» الإيطالية، واسعة الانتشار. صدرت له روايات ومجموعات قصصية وشعرية.
ومن أجواء الرواية نقرأ:
«فقدت القدرة على إحصاء الأيام. كنت أسأل إيريش متى سنرحل من هذه المزرعة ويجيب بأنه لم تحن اللحظة المناسبة. عندئذ أشعر بالضيق لأنني أريد أن أرحل من هنا. عندما أسأله كيف سنعرف في أي مرحلة أصبحت الحرب، يقول إنه لم يمض علينا هنا أسبوعان ونحن هاربان. انتهى اللحم المحفوظ في الملح وانتهى خبز (البولينتا) والفطائر. نفد الجبن والرقاق. ينزل إيريش، يختفي بعض ساعات وأبقى بمفردي على تلك القمة، أنظر إلى الوادي وأشعر بدوار غريب، وقفة ريح تشل حركتي. كان يستطيع أن يأخذ من الفلاحين شريحة لحم أو قطعة جبن، ولكن أصبحنا نأكل أقل باستمرار. ازدادت نحافة وجهه وأصبح مجوّفاً تحت لحيته الخشنة. كان يصطاد حيوانات الغرير الثابتة كالتماثيل بأن يضربها بالعصا بين كتفيها. كان أكلها عيداً بالنسبة إلينا. نشعل النيران تحت الشواية ونحمر اللحم ونأكله حتى تبيض العظام. ازداد شعوري بأنني بريّة، ولكنني لم أشعر بأنني أفقد ملامحي الإنسانية كما حدث عندما كان في الجبهة.
في صباح أحد الأيام ذهب للصيد وأخذت أتبع مسار مجرى نهر. اعتقدت كحالمة بأنني سأعثر على سمك إلا أنني استطعت بصعوبة أن أملأ القارورة بقطع من الثلج عندما عثرت على منزل أحد الفلاحين. طرقت الباب، فتحت لي امرأة. حكيت لها أننا هاربان من الحرب، وأننا نحاول الذهاب إلى سويسرا. حصلت على عبوة حساء وقنينة نبيذ، وأقسمت بأنني سأعود لأدفع لها ثمنها، واتخذت طريق العودة إلى المغارة شاعرة بالانتصار متخيلة شفتي إيريش البنفسجيتين تبتسمان لي برضا.
صعدت ببطء بين الأشجار وخطواتي تنغرس في الثلج الجاف وكأنه الملح القديم. أفكر في إيريش وهو يحاول التخلص منه كما في صراعنا اليومي. سمعت أصواتاً، أصواتاً عنيفة ألمانية تطرح أسئلة ثم أصوات صارخة. كانت المغارة على بعد عشرات الخطوات من مكاني. مددت جذعي لأتمكن من رؤية ما يحدث. كان الجنديان يديران ظهرهما تجاهي ويسألان بإصرار:
– مقاوم؟ هارب من التجنيد؟
ولم يكن إيريش يجيب. جثمتُ. حدق في طائران من فوق الأغصان. نزلت ببطني في الثلج وخدّر البرد صدري. الآن أراهما جيداً. استمرا في استجواب إيريش. أخرجت المسدس، لم يكن فيه سوى ست طلقات. أمسكت به بكل قواي. سددت على ظهر الأول سقط مرتطماً بثقله. التفت الآخر على الفور فأصبته في صدره. أطلق صرخة مختنقة. أخذت أضرب الرصاص على الجسدين الممدين حتى انتهت طلقات المسدس. وقف إيريش كالمشلول وظهره مستند إلى الصخرة يحدّق في وجهي وعيناه متحجرتان وكأنه لا يعرفني».
ميدل إيست أونلاين