سابقة «أطلسية» في التزاحم مع موسكو: توتر يفوق خطورة الحرب الباردة
تفاؤل إزاء الموصل، حيث يبدو الحسم مقرراً. تأكيد أنّ معركة الرقة خلال أسابيع. «داعش» سيهزم هنا، سيحجّم هناك. لكن تحت هذه العناوين المحلية يعتمل جمر صراع دوليّ. هناك كلٌ يجادل بأنه يتحرك نزولاً عند دواعي الردع والدفاع، لكن المزيد من التحشيد العسكري المتبادل، بين روسيا و «الحلف الأطلسي»، لا يقول إلّا أنّ الأجواء بينهما مشحونة تماماً، بما لا يحتمل أخطاءً في ترجمة الرسائل. مع إرسال طائرات «اواكس» أطلسية، لدعم مباشر لعمليات «التحالف» بقيادة واشنطن فوق سوريا والعراق، يصل الاحتكاك بين القطبين مستوى غير مسبوق، باعتراف قادة في «الحلف» قالوا إنها المرة الأولى التي يعملون فيها في بيئة شديدة التعقيد كهذه.
أجواء هذا التوتر الشديد، كانت واضحة في اجتماع وزراء دفاع الـ «ناتو» في بروكسل. هناك أخبار بالطبع. أولها أن الوحدة خلف إتمام معركة الموصل، كما يجهد «الحلف» لإظهارها بين دوله، لا تزال تشوبها تباينات وخلافات رؤى. المسألة هنا تمسّ تحديداً اعتراض شركاء أطلسيين على تعنّت أنقرة، في إصرارها على الانخراط في معركة عراقية رغماً عن إرادة بغداد. اللافت أن من أبدى اعتراضه الصريح كان ألمانيا، رغم أنها تحاول كل ما في وسعها عدم توتيرعلاقتها بتركيا، بما هي بوابة إغلاق طريق البلقان أمام تدفقات اللاجئين.
حين سألت «السفير» وزيرة الدفاع الألمانية أرسولا فان دير لين توضيح موقفها من نهج أنقرة، فضلت عدم التملّص: «في التحالف الدولي ضد داعش لدينا قواعد واضحة، وإحدى هذه القواعد هي أن نحترم سيادة الدول، مثل دولة العراق، وهذا يجب أن يكون واضحاً».
أمّا في ما يخصّ الجناح السوري لـ «داعش»، فدول فاعلة في «تحالف» واشنطن أكدت أنّ هناك تخطيطاً لمعركة وشيكة، وإن كانت لا تطمح لإعلان نصر حاسم كما يحصل مع معركة الموصل.
سألت «السفير» وزير الدفاع البريطاني مايكل فالون عن آفاق التخطيط لمعركة الرقة، فأجاب بأنّ «العمليات ستبدأ قريباً للمساعدة في عزل الرقة وللبدء في حصارها»، قبل أن يضيف «لقد رأيتم تقدماً كبيراً الآن في حصار الموصل، النجاح في الضفة الشرقية من دجلة، ونأمل أنّ عملية مماثلة ستبدأ باتجاه الرقة خلال الأسابيع القليلة المقبلة».
ليس هناك، حتى الآن، مصادقة على القوات الأرضية التي ستكون في طلائع خوض تلك المعركة. في العراق احتاج الأمر إلى أشهر لتسوية سياسية، لم تظهر كل تفاصيلها، تضع قوات «البشمركة» في تكاتف مع القوات العراقية الأخرى بما ينجز اقتلاع «داعش» من عاصمة خلافته. واظب وزراء دفاع على الإشادة بهذا التكاتف، بالشراكة والتوحّد الوطني، لكن لم يحضر أي خوض مماثل في ميدان المعركة السورية.
فاعل القوات الأرضية لا يزال يُبنى للمجهول، ستُحاصَر الرقة، ستُعزَل، لكن بأي قوات لا أحد يقدم جواباً وافياً. المحسوم، حتى الآن، أنها ستكون عملية لـ «تحالف» واشنطن، بما يعني استبعاد روسيا عن مسرحها، ما يعني ضمناً حصرها بالمشروع السياسي المناوئ لدمشق وحلفائها.
وسط تثبيت هذا التعارض، تأتي خطوة الأطلسي في تسيير مهامّ طائرات «أواكس»، بما هي مراكز تحكم وقيادة، لتقديم دعم مباشر لعمليات «التحالف» الغربي. الهدف الذي تم التشديد عليه هو أنه ستقدم للـ «التحالف» شاشة مراقبة محكمة لكل ما يجري في السماء العراقية والسورية، بما يفيد توفير «سلامة» العمليات المتاخمة لعمليات موسكو وحلفائها.
شدد الـ «ناتو» على أنها ليست بأي حالة انخراطاً في «مهمة قتالية» إلى جانب «التحالف»، لكن ذلك الحذر لا يمكنه حجب أنها باتت كذلك. «أواكس» الأطلسي لم تذهب لمهمتها من أجل الترفيه، والخريطة الجوية التي تقدمها سيستخدمها «التحالف» في النهاية في إطار عملياته الحربية.
وفق شروح المسؤولين في الـ «ناتو»، لن تحلق «أواكس» فوق العراق أو سوريا. يقولون إنها لا تحتاج إلى ذلك أصلاً، فمجال تغطيتها يمكنه رصد تلك الأجواء بشكل دقيق، مع بقائها محلّقة في الأجواء التركية، إضافة إلى الأجواء فوق المياه الدولية في البحر المتوسط.
في غضون أسبوعين، ستصل مهمة «الأواكس» إلى طاقتها التشغيلية القصوى: 70 طلعة جوية في الشهر، بما يعني حوالى 500 ساعة طيران، نصفها سيكون مخصصاً لمتابعة كل شاردة وواردة في منطقة العمليات.
سيجري ذلك في إطار دعم عمليات «التحالف»، وأيضاً في سياق «إجراءات الضمان» الأطلسية للحليف التركي، بما يعني تحركات القطع الروسية في المنطقة بشكل أساسي. برغم ذلك حذر مسؤول عسكري أطلسي من ربط هذا الهدف بمهمة «الأواكس»، التي احتاج إطلاقها إلى أشهر من التداول داخل أروقة «الحلف»، ما يعكس حجم الحساسيات المحيطة بهذه المهمة المتعلقة بـ «السلامة الجوية».
تحدث عن القضية بالتفصيل بادي تيكل، رئيس أنظمة الإنذار المبكر المحولة جوّاً (الأواكس) لدى الأطلسي في القاعدة المتمركزة في بلجيكا، عبر مؤتمر صحافي بالدائرة الهاتفية مع الصحافيين في بروكسل.
كثيرون كانوا متضجرين من تكرار أهداف «السلامة»، نظراً للإدراك المضمر أنّ الأمر أكبر من ذلك. حينما ألحّ عليه البعض أن الأمر لا يمكن أن يكون إلا رصد أنفاس روسيا وحلفائها، ردّ بالتشديد على أن المهمة «لا تتعلق بمراقبة الطائرات الروسية والسورية، إنها فقط لتوفير سلامة الطائرات، وسلامة المجال الجوي».
يبدو الحذر، تجنب الاستفزاز، مفهوماً، مهما تكن المهمة. بدا واضحاً عدم الرغبة في مزيد من الاستفزاز لموسكو. كل هذا يمكن فهمه من السياق الذي يجري فيه. سياق يدرك حساسيته تيكل، لكونه شارك في التخطيط العملي لمهامّ أطلسية خلال حربي الخليج، كما في كوسوفو وأفغانستان.
سألت «السفير» المسؤول الأطلسي إن كان سبق للأطلسي ودوله العمل في مجال يشكل أيضاً مسرح عمليات حربية لروسيا، فرد بأن هذا غير مسبوق بالفعل: «إنها المرة الأولى التي نعمل فيها داخل بيئة من هذا النوع، إنها بيئة شديدة التعقيد»، قبل أن يوضح «تفويض مهمة الناتو واضح للغاية؛ دعم التحالف ضد داعش، بالنسبة لما يجري في سوريا الأمر يدور فقط حول مكافحة داعش».
تأكيداً على هذا السياق الحسّاس، يمكن استحضار الإفادة التي قدمها وزير الخارجية الألماني فرانك فالتر شتاينماير أخيراً، المضافة لاعتراضه المتكرر على مواصلة «قعقعة السلاح» الأطلسية على تخوم روسيا. الديبلوماسي المخضرم اعتبر أن ما يجري الآن «أخطر من الحرب الباردة»، لأنه حينها «كانت واشنطن وموسكو تعرفان خطوطهما الحمر وتلتزمان بها».
لكن التحذيرات لم تمنع استمرار تلك القعقعة. الأطلسي أعلن أنه ماض لتنفيذ تعزيزاته العسكرية في الشرق الأطلسي المتاخم لروسيا، إضافة لمنطقة البحر الأسود. كل ذلك تحت عنوان «الردع» مع تأكيد مواصلة الحوار مع موسكو.
لهذا الغرض، قال الأمين العام للـ «ناتو» يانس ستولتنبرغ إن مجلس روسيا والـ «ناتو»، على مستوى السفراء، سيلتئم قريباً، كما لفت إلى تبادل مقترحات مع الخارجية الروسية بهدف «تعزيز الشفافية».
كرر ستولتنبرغ انتقادات الـ «ناتو» لعمليات روسيا في حلب، مع المناشدة لتحقيق هدنة وإيصال المساعدات. الحملة على مجموعة السفن الروسية المتجهة إلى السواحل السورية سرقت الأضواء. الجدل انتهى بتأكيد إسبانيا أن حاملة الطائرات «الأميرال كوزنيتسوف» لن تتوقف في ميناء سبتة للتمون بالوقود، بعد سحب موسكو طلباً قدمته سابقاً بهذا الشأن. مصدر مطلع على القضية أكد لـ «السفير» أن الأمر لا يتعدى كونه «حملة مفتعلة في الصحف البريطانية».
لماذا «مفتعلة» بما أن لها أساساً واقعياً؟ يردّ المصدر شارحاً أنّ السفن الروسية توقفت «عشرات المرات» سابقاً للتموّن، لكن أحداً لم ينتقد ذلك، خصوصاً أنها مسألة كما يقول «روتينية تجري بعد طلبات بهذا الخصوص ومن دون وجود اتفاقيات تنظمها، هذه المرة السياق كان حسّاساً نتيجة الحملة الإعلامية».
صحيفة السفير اللبنانية