سارق العمامة.. البحث عن نبي
«لا يجوز شرعا بيع هذه الرواية للمتدينين»، بهذا الاستهلال الصادم غير المتوقع يفتتح الروائي العراقي «شهيد» روايته الثانية «سارق العمامة» الصادرة عن دار سطور في بغداد، وهو مفتاح قصدي لِعَتَبة الرواية بعد عتبة العنوان اللافت يضعنا الروائي في عَتَبتين متجاورتين: الغلاف والاستهلال وهما كفيلان بتحديد مسار السرد في المنطقة المحرمة التي حاول هذا الروائي الشاب اقتحامها من وجهة نظر سردية ارتأى أن تكون عن طريق الحلم أو الرؤيا كوسيلة من وسائل التوصيل الفنية. وهي مغامرة سردية اخترقت المقدس وأفحمت الكثير من التابوات الاجتماعية وسخرت منها أيضاً.
يخوض شهيد هذه المغامرة برؤية فكرية قد لا يتقبلها المجتمع ويعترض عليها حينما أنْسَنَ السماوي والمقدس الثابت وجعله في متناول اليد ومنحه روحاً أسطورية جديدة تتماهى مع الأرضي المثقل بالآلام والأحزان والانكسارات اليومية من أجل الخلاص وتوكيد الإنسانية على قيم مفهومة معتدلة وعادلة غير معقدة بدلاً من تخبطات المقدس الذي يحمله رجال الدين كمشروع للظلم والتخويف والتخوين، وهو أمر فيه مجازفة أمام عقول متحجرة جعلت من المقدس أسطورة قارّة ينبغي ألاّ تخضع للجدل والمناقشة والتأويل مثلما جعلت من النص بعموميته الأسطورية-التاريخية غير قابل للنظر فيه.
تستعرض «سارق العمامة» سبعة أيام من حياة شخص حلم أن الرب جاءه في الحلم فأبدى رغبته له بأن يكون نبياً فوافق الرب مشترطا عليه شرطاً لم يتوقعه وهو سرقة عمامة، عندها يمكن أن يكون نبياً جديداً للبشرية لو حقق هذا الشرط البسيط في ظاهره والعميق في رمزيته ودلالته ومن هنا تبدأ السرديات الكبيرة والاحتمالات التي تضجّ بها الرواية كون العمامة «الشيء الوحيد الذي لا يجوز الاقتراب منه والتحرش به في هذا الزمن» و»ربما هي الأقرب للعقل» وربما هذا «ناتج عن قناعة الرب بأن مظهر العمامة لم يعد مناسباً في هذا الزمن» و»من المتوقع أن الرب قد أدرك أن الحروب.. هي حروب عمائم ..» ومثل هذه التداعيات وغيرها شكّلت اللبنة الأساسية لاحتمالات هذا الشرط غير المتوقع عبر الشخصية الراوية الوحيدة على مدار النص الطويل وهو الراوي كليّ العلم بمجريات الأحداث والصوت الواحد الذي دارت حلقة الرواية عليه من البداية إلى النهاية.
تستدعي سارق العمامة وجهات نظر متعددة، فمن الرقم سبعة برمزيته الدينية والأنثروبولوجية والشعبية حتى نهاية السرد القائم على محاولة استحداث نبي لهذا العصر الجديد الغارق بالدماء تمضي الرواية بمنعطفات درامية متعددة فسارق العمامة أخطأ بسرقة العمامة المطلوبة من رجل دين اسمه «ظهْر الدين» مما أدى إلى إيداعه المصحّ العقلي كونه مدّعياً النبوة وأنه كليم الله في الحلم، لكنه يتمكن من الهرب حاملاً معه جملة طبية مقلقة -حُقِن بها كونه يتعرض إلى مثل هذه الحقن في المصحّ العقلي- من أنه سيموت بعد سبعة أيام وعليه أن يتدارك أمره وحياته فيما تبقى له من أيام قليلة في الحياة، وهذه هي حلقة الرواية الدائرية التي بنى عليها الروائي مأثرته «النبوية» بالرقم سبعة ذي المحمولات الطقوسية والدينية ليبدأ العد التنازلي مع عدد الأيام وعدد الفصول الروائية أيضاً.
خطان متوازيان يسيران مع الرواية في محاولة لأن يلتقيا في النهاية في انحناءات النص حلماً وواقعاً بعد الهروب من المصحّ العقلي حينما يلجأ سارق العمامة إلى فندق بائس يحتمي ويختفي به بعد إشهاره من أنه حالم بالنبوة وأنه كليم الله في الرؤيا، ليجد عدداً من النماذج البشرية المسحوقة تقيم في هذا المكان وهو إشكالٌ له دلالاته السردية كمعادل لحلم النبوة المفترض، بإشارة إلى الظلم الفادح في الحياة الذي تمثله هذه النماذج البشرية البائسة واليائسة، أو كأنه يريد البرهنة على أصالة حلمه ورؤيته بأن يكون نبياً ليقيم مشروع العدالة على الأرض كمرسَل سماوي بعدما ثبت لديه أن الحياة في هذا المجتمع «وهو مجتمع غير مسمّى» تحتاج إلى رسالة جديدة وأن البقاء على الرسالات القديمة قد تجاوزها واقع الحال وأن الحياة تمضي إلى مشاوير أكثر تعقيداً وظلماً وقرفاً تسببت به العمامة التاريخية التي لا تريد أن تجدد؛ وكأنما المصحّ المؤقت الذي وجد فيه الراوي نفسه قد أنتجه من جديد ليكون أكثر وضوحاً في نشر رسالته المفترضة بعدما وجد في الفندق المتهالك أكثر النماذج البشرية بؤساً وألماً.
الرحلة المتسارعة من الحلم إلى المصحّ العقلي ثم إلى الحياة في فندق رخيص مع بقاء سبعة أيام ضمانة للبقاء في الحياة تذكّرنا على نحوٍ ما بحياة الأمير سدهارتا-بوذا الذي هرب من قصر والده الملك ليرى الحياة في الخارج على غير ما هي عليه في القصر الباذخ، حينما فاجأه الفقر والظلم والموت والتسول ليهيم على وجهه في الغابات والخلوات سنواتٍ طويلة تاركا فخامة القصر وما فيه ليعود بوذا المستنير بعد أن تعلم الحكمة وأشاعها بين مريديه.
سارق العمامة لم يكن يحتاج إلى خلوات بعيدة عن زمنه، فقد خرج طبقاً لتوصيف الرواية، من جحيم الحياة ومن تجربة روحية عميقة من دون الحاجة إلى معرفة ماضيه أو معرفة ماضي المجتمع الذي يعيشه، فكل شيء واضح من دون تسميات مكانية أو جغرافية، مثلما لا يحتاج التاريخ كواجهة أو أرضية ينمو عليها السرد الروائي أو كتمثال مقدس ينحني له السارد وهو في تداعياته التي تملأ الرواية أسئلة وألماً لإنقاذ واقع النص من العمامات المزيفة وأشباح الدين الذين دخلوا الحياة من كل الزوايا المعروفة وغير المعروفة في محاولة لإنقاذ البشرية بنبي جديد يبشّر بالخلاص وإعادة الحياة إلى الخالق بعدما سرقها البشر، فالإنسان صانع المأساة وليس الرب.
بوذا تحرّر في لحظة زمنية كان غير مهيأ لها بل فاجأته الحياة خارج قصور أبيه الملك، وسارق العمامة يفترق عن بوذا الهند من أنه كان وظلّ حتى نهاية السرد يدرك بأن الإنسان قد شوّه الحياة وأحالها إلى بنود مقدسة ليضمن بقاءه على جثث وآلام البشرية، لكن الأيام السبعة الممنوحة له بعد هربه من المصحّ العقلي هي ما يمكن أن تعيد تأكيده على وعي استثنائي بأهمية العدالة في الحياة والرب ليس مسؤولاً عمّا يجري من جرائم تحت بند العمامة المزيفة رجال دين يظهرون في الأزمان كلها ويحيلون الحياة إلى جحيم بتوثيق المقدس نصاً ووجوداً بطريقة آلية مُحكمة ليطبقوا على رقاب الناس.
سارق العمامة التي وقفت على مهيمنتين أساسيتين في المقدس والمدنّس وبخطين متوازيين افترعهما الحلم والواقع هي رواية أفكار قبل أن تكون رواية أحداث، فالأحداث التي تجري إلى جانب الأفكار بواقعيتها تغذي الحلم النبوي المقترح، بينما الحلم الذي يطرأ على السرد ويشكّل عاملاً درامياً متصاعداً يشكل ركيزة بيانية تأخذ بالواقع لتفكيك فكرة المقدس وإخضاعها إلى محاكمة أرضية عبر التوسل بالسماء.
روايات الأفكار كسارق العمامة بزمنيّتها الرمزية في الخلق الإلهي وبتغريبها عن الواقع المفترض تبقى رواية زمن عائم ممكن أن تركّبه على أيّ واقع؛ عربي على وجه التخصيص؛ ولو انطلقت بنيتها الفكرية من جغرافية العراق إلا أنها تتحمل توصيفات خارجة عن جغرافية وطن كبّلته العمائم، بمعنى كبّلته آلية تاريخية لا تريد للحياة أن تتنفس حداثاتها في العلم والتكنولوجيا والإلكترونيات والحريات المدنية والانفتاح على العالَم .
مجلة الجديد اللندنية