سارق النار

 

طه حسين كان نموذجا للمثقف الموسوعي والملم بالمفهوم الجاحظي للكلمة، فالمتتبع لجميع مؤلفاته يكتشف أنه كتب في كل شيء، نقدا وتاريخا وتحليلا وتوثيقا، ودراسات استشرافية مذهلة أهمها “مستقبل الثقافة في مصر”، الكتاب الذي سبق عصره.

وفي كل ما كتب، لم يحد طه حسين عن منهجه العلمي وسلوكه الليبرالي الذي لم يحد عنه حتى في المرحلة الناصرية التي غلب عليها طابع الأدلجة والتجييش. يكفي أن تتطلع على كتاب الشعر الجاهلي حتى تكتشف أن طه حسين لا يأخذ بالمسلّمات، ولا يستقر عند يقين في نظر المجموعة.. إنه مختلف، ويتفوق على نفسه في كل ما كتبه فعلى صعيد الإبداع الأدبي مازالت قصصه ورواياته تنشر مثل”دعاء الكروان”و”المعذبون في الأرض”و”صوت باريس”،حتى ان نجيب محفوظ اعترف قبل وفاته أنه قد استلهم فكرة ثلاثيته من قصة طه حسين”شجرة البؤس” ولاننسى هنا سيرته”الأيام”التي تعد فتحا غير مسبوق في السيرة الذاتية العربية.

طه حسين، وبعد مرور مما يزيد عن نصف قرن على وفاته، لا يزال محط تقدير واحترام فائقين حتى في أحلك الظروف وأكثرها انحطاطا وتهميشا للثقافة والمثقفين، إذ تحتفظ الذاكرة التونسية، مثلا، بزيارته التاريخية إلى تونس فجر استقلالها سنة 1957وإشرافه على تأسيس دار المعلمين العليا فيها، ومحاضرته التي أبدى فيها كبير إعجابه بذلك “التناغم الرشيق بين الدين والدنيا، والذي يندر مثيله في العالمين العربي والإسلامي”، وذلك أثناء لقائه بشيوخ جامع الزيتونة.  هذه العلاقة التاريخية المميزة بين المفكر الليبرالي المصري وجمهور محبيه في تونس، جعلت أخيرا، الهيئة المستقلة للاتصال السمعي والبصري في تونس (الهايكا) إيقاف برنامج إذاعي لمدة أسبوع بعد سخرية أحد مقدميه من عميد الأدب العربي، طه حسين.

وفي بيان أصدرته منذ أيام، أكدت “الهايكا” أنها قررت إيقاف برنامج “أحلى صباح” الذي يتم بثه على القناة الإذاعية الخاصة لمدة أسبوع من تاريخ بلوغ القرار، وذلك للمخالفة الجسيمة التي تضمنتها تلك الحلقة من البرنامج، والتي تمثلت في “المس من الاحترام الواجب لكرامة الإنسان من خلال السخرية من أصحاب الإعاقة البصرية”. كما قرر المجلس عدم إعادة بث الحلقة موضوع القرار وسحبها من الموقع الإلكتروني الرسمي للإذاعة ومن جميع صفحات التواصل الاجتماعي التابعة لها والالتزام بتنفيذ قرار الهيئة وعدم الالتفاف عليه بأي شكل من الأشكال.

إنه طه حسين الذي قال عنه نزار قباني ” إرمِ نظارتيكَ ما أنتَ أعمى

إنما نحن جوقةُ العميانِ

أيها الأزهريُّ يا سارقَ النارِ

ويا كاسراً حدودَ الثواني”.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى