ليسَ سَهْلاً أن تكونَ مُترجِماً مُبدِعاً وقادراً على نقلِ الأفكارِ والمشاعرِ والأحاسيسِ النَّبيلةِ من لُغةٍ إلى أُخرى، بعيداً عن الترجمةِ الحَرْفيّةِ لِمَا يُرادُ تَرْجَمَتُهُ، ما لم تَكُنْ بارعاً في تقديمِ النَّصِّ الأصليِّ بنقاءِ رُوحِهِ وبهاءِ حُروفِه، وليسَ سهلاً أن يكونَ المُترجِمُ قادراً على صياغةِ النَّصِّ المُترجَمِ بأُسلوبٍ ولُغَةٍ يُناسِبانِ لُغَةَ الشَّريحةِ المُستَهْدَفةِ بالتَّرجمةِ وأُسلوبَها، ما لم يَكُنْ مُحافِظاً على سِحْرِ النّصِّ الأصليِّ وجاذِبّيتِه.
هذا ما نجحَ فيهِ أديبُنا ومُبدِعُنا الراحلُ الأستاذُ الدكتور سامي الدروبي بفِكْرِهِ الخَلّاقِ وأُسلوبِهِ المُختَلفِ والعميق، وقد كانَ أكاديميّةً مُتكامِلَةً وحقيقيّةً في الأدبِ والترجمةِ والإبداعِ بإيمانِهِ العميقِ بالرِّسالةِ الحضاريّةِ للمُترجِم، وهو ما جعلَ الرئيسَ اليوغسلافيَّ “تيتو” يُقلِّدُهُ الوسامَ الأرفعَ في بلادِهِ، لا سفيراً فحسب، وإنّما كاتباً وأديباً كبيراً رُزِقَ فصاحةَ اللِّسانِ وعُروبةَ البيانِ، حتّى لَكأنَّ قارئَ تَرْجَماتِهِ يَظُنُّ أنّها هيَ الأصلُ، وأنَّ الأصْلَ هُوَ التَّرجمة.
لقد كانَ الأغْزَرَ إنتاجاً والأكثرَ إغناءً للمكتبةِ العربيّةِ بما قدَّمَهُ من تَرْجَماتٍ أغْنَتِ المشهدَ الثقافيَّ والإبداعيَّ لأُمّتِهِ العربيّة التي أحبَّها وعَشِقَ أمجادَها، كيفَ لا، وهو سليلُ مدرسةِ الانتماءِ القوميِّ الصَّادق الذي لم تنجحِ الشِّقاقاتُ والخِلافاتُ والخُصُوماتُ في التأثيرِ فيهِ، تماماً كما لم تنجحِ الفِتَنُ والاحْتِراباتُ، التي أضاعَتِ الزَّخَمَ القوميَّ، في التأثير فيه؟ لقد بقيَ حتّى اللحظةِ الأخيرةِ من حياتِهِ يَرْفُضُ أنْ يكونَ مُحايِداً في القضايا القوميّةِ المصيريّةِ، مُجَسِّداً صِدْقَ الانتماءِ وثَباتَ الموقفِ بفِعْلِهِ الأدبيِّ الخَلّاقِ، وبإصْرارِهِ الواعي ومُعاناتِهِ الصابرة، مُحاوِلاً مَدَّ الجُسورِ بينَ الماضي والحاضِرِ والمُستقبلِ إلى درجةٍ جعلتْ منهُ العالِمَ والمُفكِّرَ الأسمى، والشِّهابَ المُتَوهِّجَ في عالم الإبداعِ والتَّرْجَمةِ، فنجحَ في إغناءِ الأدبِ العربيِّ بما قدّمَهُ من تَرْجَماتٍ تجاوَزَتْ عشراتِ الآلافِ من الصَّفَحاتِ بطريقةٍ جَعَلَتْ مُعْظَمَ الكُتَّابِ والمُتَرجِمينَ عالةً على أدبِهِ وتَرْجَماتِهِ المُتَميِّزة، بل إنّهُ استطاعَ ببراعةِ لُغَتِهِ وجَزالَةِ ألْفاظِهِ وإنسانيّتِهِ المُرْهَفَةِ أنْ يجعلَ مِنْ عَصْرِهِ عصراً ثانياً للتَّرْجَمةِ بعدَ عَصْرِها الأوّلِ أيّامَ الدَّولةِ العبّاسيّة، إيماناً منهُ بالحاجةِ الماسّةِ إلى فَتْحِ أبوابِ النُّورِ والعِلْمِ أمامَ نَسَماتِ المعرفةِ وشَمْسِ المُثاقَفَةِ الحضاريّةِ، بعيداً عَنِ التَّكلُّسِ والتَّقَوْقُعِ اللَّذَينِ أصابا الأمّةَ وثقافتَها في لحظةٍ من لَحظاتِها التاريخيّةِ، فأوْقَعَاها في شَرَكِ التَّخلُّفِ والانْحِدارِ المعرفيّ.
إنّهُ المُؤمِنُ إيماناً مُطلَقاً بأنَّ نهضةَ أُمّتِهِ لا يُمكِنُ أن تتحقّقَ إلّا بالاطِّلاعِ الشّاملِ على الحضارةِ الحديثةِ وتَمَثُّلِ وُجوهِها المُختلفةِ فِكْراً وأدباً وفلسفةً وفنّاً، بل إنَّ رَفْضَهُ للتَّرْجَماتِ الشَّكْليّةِ والسطحيةِ السريعةِ جَعَلَهُ يَشْعُرُ بمسؤوليّةٍ كبيرةٍ دَفَعَتْهُ إلى إعادَةِ تَرْجَمَتِها بنَفْسِهِ لتكونَ التَّرجمةُ لائقةً بأُمّتِهِ وثقافَتِها وحضارَتِها، وهو المُترجِمُ والأديبُ العاشقُ للُغَتِهِ بكُلِّ ما تَحْمِلُهُ من سحرِ البيانِ ورشيقِ العِبارَة، مُقَدِّماً إيَّاها إلى القُرّاءِ بلِسانٍ عربيٍّ فصيحٍ بعيدٍ عن الزَّلَلِ والاعْوِجاجِ، ناقلاً العواطفَ والأفكارَ والمشاعرَ بكُلِّ ما يَحْمِلُهُ المُترجِمُ المُخلِصُ من أمانةِ النَّقْلِ وإبداعِ الترجمة، وهو ما جعلَ بعضَهُمْ يتناسى سامي الدروبي السِّياسيَّ والسفيرَ والوزيرَ، ولا يَذْكُرُهُ إلّا كاتباً ومُترجِماً ومُفكِّراً قلَّ نظيرُهُ بينَ أقْرانِهِ بما حَمَلَهُ مِنْ ذوقٍ رفيعٍ في الاختيارِ وإتقانٍ للُّغَةِ التي يُتَرجِمُ عنها إلى جانبِ إتقانِهِ للُغَتِهِ العربيّةِ وبراعَتِهِ في استخدامِ مُفرَداتِها وتوظيفِها، فقدّمَ إلينا نُصوصاً إبداعيّةً خالصةً وفهماً عميقاً لرُوحِ الكاتبِ المُؤلِّفِ، بعيداً عنِ اللُّغَةِ التي يشتغلُ عليها التُّجّارِ أوِ الجَهَلَةُ مِنَ المُتَرجِمين، وهذا ما جعلَ منهُ مُؤسَّسةً أخلاقيّةً مُتكامِلَةً في الترجمةِ والإبداع، وتشهدُ على هذا ترجمتُهُ الكاملةُ لأعمال “دوستويفسكي” وترجمتُهُ لقسمٍ من أعمالِ “تولستوي” إلى جانبِ تَرْجَماتٍ لكُتّابٍ عالميّينَ آخَرِينَ كثُلاثيّةِ الأديبِ الجزائريِّ مُحمَّد ديب.
لا شَكَّ في أنَّ أديبَنا الراحلَ ومُبدِعَنا الكبيرَ نَجَحَ في تقديمِ أعمالٍ بَلَغَتِ المُسْتوى الحضاريَّ الأعلى بينَ التَّرْجَماتِ على مُستوى الوطنِ العربيِّ والعالَم، وذلكَ بامْتِلاكِهِ أدَواتِ التَّرْجَمةِ الصحيحة وبسَبْرِهِ أغْوارَ اللُّغَةِ العربيّةِ ومعرفتِهِ الدقيقةِ بالمعاني والدّلالاتِ العميقةِ للُّغَةِ التي يُتَرْجِمُ عنها، ولعلَّ أهمَّ ما يُميِّزُ التَّجربةَ “السّاميّةَ” في الترجمةِ هو الشُّعورُ العالي للمُتَرجِمِ بالنَّسَبِ الرُّوحيِّ العميقِ بينَهُ وبينَ مَنْ يُتَرْجِمُ لهُ، حتّى إنّهُ أصبحَ يَجِدُ نَفْسَهُ فيهِ مُتحرِّكاً في عَوالِمِهِ كتَحرُّكِهِ في بيتِه، وكانَ عارفاً بشُخوصِهِ معرفتَهُ بأصدقاءَ طالتْ صُحْبَتُهُ مَعَهُمْ، حتّى لَكأنّهُ يُحاوِرُهُمْ هَمْساً في بعضِ الأحيان، بل إنّهُ كانَ يقفُ أمامَ بعضِ الأماكنِ والمعالمِ في رواياتِهِمْ وأعمالِهِمْ، كأنّهُ حاضِرٌ معَهُمْ في تفاصيلِ كتاباتِهِمْ وإبداعاتِهِمْ كُلِّها، كما هيَ الحالُ في جِسْرِ “دوستويفسكي” في “لياليهِ البيضاء”، وفي ذلكَ المنزلِ في “الجريمة والعقاب”.
رَحِمَ اللهُ سامي الدروبي، المُفكِّرَ والأديبَ والمُتَرجِمَ، الذي استطاعَ بما قدّمَهُ إلى المكتبةِ العربيّةِ والعالَمِ أنْ يُؤسِّسَ للحظةٍ جديدةٍ وفارقةٍ في حياتِهِ وبعدَ مماتِهِ، لحظةٍ لا تُخلِّدُهُ بخُلودِ جسَدِهِ بينَنا على هذهِ الأرضِ، وإنّما بخُلودِ مُؤلّفاتِهِ وتَرْجَماتِهِ فوقَ الزَّمانِ وفوقَ المكانِ في قُلوبِ قُرّائِهِ الذينَ غاصَ بهم بعيداً في أعماقِ النَّفْسِ وفي أعماقِ الوُجودِ كُلِّه.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة