سباق المخطوطات القرآنية … الجدل الغربي والتباسات التلقّي
تطالعنا أخبار المشتغلين بالحفريات والتاريخ والنقوش الأثرية كل فترة، بخبر عن مخطوطة قرآنية يعود تاريخها إلى القرون المبكرة للإسلام. ولعل الأخبار استقرت قبل فترة قليلة على مصاحف عدة يعود تاريخ بعضها إلى فترة الخليفة الثالث عثمان بن عفان الذي يُعرف باسمه المصحف المتداول بين أيدي المسلمين اليوم (المصحف العثماني) نظراً إلى المَهمَّة التي قام بها وعدداً من حفاظ الصحابة مِن نسخ المصحف وإرسال نسخ منه إلى الأمصار الإسلامية الرئيسية آنذاك وحرق النسخ الأخرى التي كانت عبارة عن مصاحف خاصة ببعض الصحابة. في دراسته «المصاحف المنسوبة إلى عثمان وعلي»، يعرِض الباحث التركي طيار آلتي قولاج دراسةً مسحيةً عن أهم المصاحف التي نسبها الباحثون إلى فترة الخليقة عثمان بن عفان، والتي زعم بعضهم أنها إحدى النسخ العثمانية التي أمر الخليفة عثمان آنذاك بإرسالها إلى الأمصار الإسلامية كالكوفة والقاهرة وغيرهما. استعرض قولاج في دراسته هذه ما يعرف اليوم بمصحف طشقند والقاهرة وإسطنبول ومخطوطات صنعاء الشهيرة، والتي يرجع الباحثون تاريخها إلى سنة 670 ميلادية، أي في فترة الخليفة الرابع علي بن أبي طالب بعد سبع وثلاثين سنة تقريباً من وفاة النبي عليه الصلاة والسلام.
الجديد في أخبار هذه التنقيبات هو ما أعلنته جامعة توبنغن قبل أشهر عن مخطوطة قرآنية أخرى محفوظة لديها يعود تاريخها إلى الفترة الواقعة بين 649 إلى 675 ميلادية أي بعد 20 إلى 40 سنة تقريباً من وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، لكن الخبر الأكثر انتشاراً هو ما أعلنته جامعة برمنغهام البريطانية قبل أيام عن مخطوطة لديها يعود تاريخها إلى الفترة الواقعة بين 568 إلى 645 ميلادية، ما يعني أنها ربما كتبت في حياة النبي عليه الصلاة والسلام، أو بعد وفاته بعشر سنوات على أبعد تقدير. لكن المثير في الأمر هو رد الفعل الواسع في العالم الإسلامي، والذي انقسم إلى فريق مبتهج بأخبار هذه التنقيبات وأنها إشارة مادية إلى صحة آية «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون» (الحجر: 9) وفريق آخر مرتاب يتوجس من دسيسةٍ ربما يحيكها المستشرقون قوامها الاعتماد على تهليل المسلمين هذا بالمخطوطات المكتشفة، ومن ثم الكشف في ما بعد عن الاختلافات الواقعة بين هذه المخطوطات المكتشفة والمصحف المتداول بين أيدي المسلمين اليوم.
ربما يكون من المفيد هنا شرحُ منهج التحقق من صحة هذه المخطوطات عند كل من المؤمنين وغير المؤمنين. بالنسبة إلى المسلمين المؤمنين برسالة القرآن، فعلاقتهم بالقرآن تقوم على مسار الرواية الشفهية التي تقول أن القرآن نُقل بالتواتر عبر الزمان من لحظة الوحي الأولى عبر مجموعة من الرواة لا يمكن حصرهم هكذا إلى يومنا هذا. بالتالي، فإن جمع الخليفة الأول أبي بكر، والخليفة الثالث عثمان بن عفان لم يكن إلا تأكيداً لهذه الرواية الشفهية التي أثبتتْ صدقيتها كتب علوم القرآن وغيرها. لهذا، فإن أخبار المخطوطات المكتشفة هذه إن أفرحتْ المؤمنين فإنها تفرحهم فقط لأنها نصرٌ إلهي جديد لهم على المشككين بالنص القرآني.
واقع الدراسات القرآنية في الغرب يبرز جدلاً تاريخياً مختلفاً تماماً حول النص القرآني وصدقيته وتأويله. يمكن تقسيم الدرس الغربي للقرآن إلى أربعة مراحل تاريخية، ابتدأت الأولى منها في ألمانيا على يد المستشرق اليهودي أبراهام غايغر في دراسته «ماذا أخذ محمد عن اليهودية»، ومن ثم ثيودور نولدكه وتلامذته في كتابهم المشترك «تاريخ القرآن» بأجزائه الثلاثة. استمرت هذه المدرسة – والتي عرفت في ما بعد بالمدرسة الألمانية الفيلولوجية التاريخية – قرابة مئة سنة بين الفترة الواقعة بين 1833 إلى 1933. أهم إنجازات هذه المدرسة هو التقسيم الرباعي للقرآن: ثلاث فترات مكية وفترة مدنية، والتركيز على تحليل القرآن نزولياً ونقده من الجهة الفيلولوجية.
باضطهاد اليهود في أوروبا ثلاثينات القرن المنصرم، خرج علماؤهم من الأكاديميات الأوروبية واضمحلَّ تدريجاً منهج النقد التاريخي الفيلولوجي المتبع لديهم، وبدأت منذ ذلك الوقت نزعة مسيحية – المرحلة الثانية – تنتمي إلى منهج تقليدي يُحيَّد من خلاله البحث التاريخي الفيلولوجي عن النص القرآني، واستبدلته بمنهج تأويلي مشى عليه اللاهوت المسيحي في بحثه عن حياة السيد المسيح. وهذا يعني الانتقال من التركيز على النص القرآني من الجهة النقدية التاريخية الفيلولوجية إلى التركيز على شخصية النبي محمد ودراسة تطوراته النفسية والسياسية. ويعد هذا النمط المسيحي التأويلي المتمحور حول شخصية النبي محمد أحد أهم المناهج التي صبغت الفترة الواقعة بين أربعينات القرن الماضي وستيناته. ومن أهم الدراسات التي ظــهرت في تـــلك الفــترة كتابات مونتغمري وات الذي اعتمد المنهج السوسيولوجي في دراسته الإسلام والســـيرة والقرآن، والتي أدت به إلى اعتبار القرآن كتاباً من تأليف النبي محمد.
في بداية سبعينات القرن الماضي، شهدت الدراسات القرآنية في الغرب صدمة أكاديمية – المرحلة الثالثة – من خلال كتابات جون وانسبرو «الدراسات القرآنية» والكتاب المشترك لباتريشا كرون ومايكل كوك المعنون بـ «الهاجرية»، والتي أسست لما عرف في ما بعد بالمنهج التنقيحي، والذي يقوم على أن القــرآن نصٌ يعود تاريخ تأليفه إلى نهايات القرن الهجري الثاني عندما أصبح المسلمون إمبراطورية. وأن الرواية الإسلامية عن موثوقية القرآن رواية أرثوذوكسية مزيفة. وأن الحقيقة التاريخية تكمن في المصادر الهامشية والمصادر غير العربية.
كارثية هذه المرحلة وصــفتها الباحثة الألمانية أنجليكا نويفرت بقولها: «عندما يفقد الموروث موضوعيته تتلاشى الحقيقة التاريخية لمكانتي مكة والمدينة وكذلك الدور التاريخي للنبي محمد… ومما لا ريب فيه أن هذه النظرة ليست غير معقولة فحسب، بل مخــالفة للمنطق فقد أثبتت وفـــي شكل ملــمـــوس مخطـــوطات يدوية اكتشفت أخيراً ظهور القرآن في القرن السابع» (انظر موقع جدلية «القرآن جزء من أوروبا»).
هنا يمكن فهم الاهتمام الكبير الذي يوليه الباحثون الغربيون لهذه المخطوطات التي تكتشف تباعاً فهي تشير في شكل أولي إلى جدل داخلي بين الباحثين الغربيين حول صحة القرآن وصدقيته. دخل الدرس القرآني في الغرب في نهايات القرن الماضي وبدايات قرننا هذا – المرحلة الرابعة – في نفقٍ من المسارات دفعت أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة شيكاغو فرد دونر إلى وصف واقع الدراسات القرآنية بأنها في حالة فوضى. هذه الفوضى شهدت مجموعة من الدراسات المثيرة الطريفة والجادة، كما شهدتْ عدداً من المشاريع الكبرى كمشروع كوربوس كورانيكوم Corpus Coranicum أو «الموسوعة القرآنية» التي تأسستْ سنة 2007 على يد أنجليكا نويفرث (أستاذة الدراسات العربية في جامعة برلين الحرة) وميخائيل ماركس ونيكولاي سيناي. وهي جزء من أبحاث أكاديمية العلوم في برلين، براندنبرغ. والهدف من تأسيسها البحث في تاريخ القرآن خلال فترة زمنية مقدارها ثماني عشرة سنة، تسعى هذه الموسوعة إلى مواصلة البحث في حقول ثلاثة: 1- التوثيق النصي سواءً كان يتعلق بالمخطوطات أو بالقراءات المختلفة. 2- جمع الشواهد والأدلة والوثائق غير المباشرة التي رافقت زمن ظهور القرآن. 3- الشرح الأدبي – التاريخي.
منذ نهايات القرن الماضي، اهتمت مجموعةٌ من الباحثين المشتغلين في مجال التاريخ والدراسات القرآنية أمثال الباحثة الألمانية أنجليكا نويفرت والمؤرخ اليوناني غارث فاودن بالفترة التاريخية التي تعرف بـ «أواخر العصور القديمة» أو «كلاسيكيات العصور القديمة» وهي فترة تشغل أربعة قرون من القرن الثالث الميلادي إلى القرن السادس الميلادي. يعود الاهتمام بهذه الفترة إلى أسباب عدة منها بروز ظاهرة الإسلام وصعود مجتمع الجزيرة العربية والسقوط التدريجي للإمبراطوريتين البيزنطية والساسانية. فكرة أواخر العصور القديمة – كما يراها المؤرخ اليوناني فاودن – تساعدنا على فهم كيف أصبحنا ما نحن عليه الآن. ولماذا تطورت العلاقات الكونية بالشكل الذي نراه اليوم. فمع صدارة الإسلام أخيراً في المشهد الأوروبي المعاصر، صارت هناك حاجة لتوضيح ماهية علاقته بتميز النشأة الأوروبية وفوق ذلك بمصادر هوية أوروبا التقليدية. إن التركيز على فكرة أواخر العصور القديمة على رغم أنها تبرز تطور الدين المسيحي في شكل خاص، إلا أنها تعطي سياقاً واضحاً كونياً عن نشأة الإسلام من خلال مصادر تاريخية متعددة لا تقتصر على الإسلامية فقط، بل تتناول المصادر الأخرى، خصوصاً المسيحية.
إن الاهتمام بالمخطوطات القرآنية، والتي صارت حقلاً معرفياً تُعقد من أجله المؤتمرات (للاطلاع أكثر تمكن مراجعة أوراق مؤتمر إقصا للدراسات القرآنية الذي عُقد السنة الماضية في سان دييغو) ويتخصص فيه الباحثون أمثال الفرنسي فرانسيس ديروش والألماني ميخائيل ماركس وآخرين، يعكس بالدرجة الأولى جدلاً داخلياً غربياً له جذوره التاريخيةُ التي تعود إلى قرنين من الزمان، ويعكس بالدرجة الثانية الالتباسات الحاصلة وواقع التصورات المجتزأة في تلقي نتاجات الدراسات القرآنية في الغرب لدى المسلمين اليوم.
صحيفة الحياة اللندنية