سباق سوري – تركي على شرق الفرات

 

في خامس أيام العدوان التركي على شمال شرق سوريا، بدأ دونالد ترامب تنفيذ ما وعد به قبل انتخابه، وأعلنه قبل عام (مع وقف التنفيذ): سحب القوات الأميركية من شمال سوريا. الإجراء الأميركي الذي سينهي حين إتمامه (جزئياً) احتلالاً مدمّراً بحجّة القضاء على «داعش»، نسف عمود «قوات سوريا الديموقراطية» الرئيس، ودفعها إلى دفن حلم «الإدارة الذاتية» بكفنٍ نُسجت خيوطه بين واشنطن وثلاثي «أستانا». اليوم، تستعد دمشق وحلفاؤها لدخول شرق الفرات، بلا رصاص (أقلّه حتى الآن)، في مواجهة غزو تركي جديد، لا تقف أطماعه ربمّا عند «شريط حدودي». التخلّي الأميركي عن «الثقل الاستراتيجي» في سوريا، حيث منابع النفط وإمكانات «مجابهة إيران» و«الضغط على دمشق»، فتح المجال أمام خيارات لم تكن واردة في ميزان «المعقول» بهذه السرعة، وأهمها عودة مناطق شرق الفرات إلى يد الحكومة السورية. ويبدو دور قنوات «أستانا» الثلاثية، حاسماً في تحديد مسار الأحداث في الأيام القليلة المقبلة، خاصة احتمالات تحييد احتمالات المواجهة بين دمشق وأنقرة، والتي تبدو مدينة منبج أولى ساحاتها المحتملة.

ساعات قليلة من ليل الثالث عشر من تشرين الأول، كانت كافية لبدء تحوّل دراماتيكي في المشهد السوري. يصعب تكثيف ما جرى من تطورات في جملة واحدة، غير أن العناوين العريضة لهذا التحوّل تبدأ من الانسحاب السريع لقوات الاحتلال الأميركية، ولا تنتهي باستعداد الجيش السوري وحلفائه لدخول مناطق شرق الفرات بموجب توافقات وُلدت أمس ــ بعد مخاض عسير ــ مع «قوات سوريا الديموقراطية» ومسؤولي «الإدارة الذاتية». الاستعجال الأميركي في الانسحاب تحت رغبة الرئيس دونالد ترامب، ورجحانُ الكفة العسكرية لصالح قوات الاحتلال التركية، وضعا «قسد» أمام طريق «إجباري» يفضي إلى دمشق. وعلى خلاف جولات التفاوض الماضية، حين كان فريق ترامب المعني بالملف السوري يبيع الوهم لـ«حلفائه»، نجحت اجتماعات ممثلي «قسد» و«مسد» المتزامنة، في دمشق وحلب وقاعدة حميميم الجوية، مع ممثلي الحكومة السورية (برعايتين، روسية وإيرانية)، في صوغ اتفاق يقضي بدخول الجيش السوري إلى المنطقة الحدودية، ومناطق التماس مع القوات التركية، كمرحلة أولى، إلى جانب انتشاره في مراكز المدن الرئيسة التي كانت تحت سيطرة «قسد».

الاتفاق الذي وضع على سكة التنفيذ قبل الإعلان عنه، يحمل صفة المستعجل، لأن انتشار القوات السورية يقابل تغلغل الفصائل التي تُشغّلها أنقرة في محيط تل أبيض ورأس العين، باتجاه الطريق الدولي بين الحسكة وحلب. ورغم أن الجانب الروسي يعمل على ضمان «منع التصادم» بين الطرفين السوري والتركي، كما فعل في ريف حلب الشمالي قبلاً، فإن السباق على الأرض لكسب المناطق قد بدأ ليل أمس على أشدّه. ووفق المعلومات الميدانية المرتبطة بالاتفاق، تحركت أمس قوات الجيش السوري إلى محيط منبج الشمالي والغربي، على أن تستكمل التحرّك شرقاً عبر الفرات، نحو بلدة عين العرب (كوباني). وتشير المعلومات إلى أن القوات الأميركية التي تستعد للانسحاب لا توفّر ما بيدها من أوراق لصالح حليفتها «الأطلسية» تركيا، إذ عرقلت دوريات أميركية انتشار وحدات الجيش السوري ليل أمس في محيط منبج، فيما كانت تخلي قواعدها في عين العرب (كوباني). وجاء ذلك فيما كانت تركيا تدفع بتعزيزات عسكرية إلى خطوط التماس المتاخمة لريف منبج الشمالي، وسط حديث في أوساط الفصائل العاملة تحت إمرتها هناك، عن نيّة إطلاق تحرك عسكري نحو المدينة. مصير منبج سيكون نقطة حاسمة لمستقبل المنطقة الحدودية المحيطة بنهر الفرات، ولا سيما أنها طريق إجباري للجيش السوري، للعبور شرقاً نحو عين العرب وتأمين جزء مهم من طريق حلب ــ الحسكة.

ويركّز الاتفاق المعلن بين دمشق و«قسد» بشكل رئيس على تأمين المناطق الحدودية، لتكون قوات الجيش السوري مسؤولة عن خطوط التماس مع الجانب التركي، ويتضمن ذلك تحرك القوات الحكومية نحو منطقة عين عيسى، انطلاقاً من الرصافة وعبر نهر الفرات، إلى جانب انتشارها على الشريط الحدودي من القامشلي حتى عامودا والدرباسية، كمرحلة أولى، على أن يتم تعزيز وحدات الجيش في الحسكة، لتوسّع انتشارها شرقاً نحو المالكية عند الحدود مع العراق. مصدر في «قسد» قال لـ«الأخبار» إن «الخيبة من الأميركيين، والخشية من إبادة جماعية لشعبنا، دفعتانا إلى إتمام الاتفاق»، مضيفاً أن «الاتفاق سيبدأ تطبيقه من منبج وعين العرب، وصولاً إلى تأمين طريق حلب الرقة الدولي». ولم ترشح أمس تفاصيل دقيقة حول مصير مناطق مهمة مثل مدينة الرقة ومناطق الحقول النفطية في أرياف دير الزور والحسكة. غير أن تطورات الساعات الأخيرة من ليل أمس في الحسكة والقامشلي، تقدم صورة أوّلية عمّا يمكن أن يحصل، إذ تسلّم الجيش السوري عدداً كبيراً من الحواجز الرئيسة في المدينتين، فيما تحدثت أنباء عن استعدادات لنشر قوات واسعة في محافظتي دير الزور والحسكة، في المناطق الخاضعة لسيطرة «قسد» حالياً. كما كانت واحدة من النتائج المباشرة للاتفاق، تسليم النقاط الرئيسة لـ«قسد» داخل حي الشيخ مقصود إلى القوات الحكومية. ومن المؤكد أن سرعة تنفيذ الاتفاق ستكون مقرونة بآليات الانسحاب الأميركي من شمال شرق سوريا، والذي قدّرت مصادر «البنتاغون» أنه قد يتم «في غضون أيام»، وفقاً لما نقلته وسائل إعلام أميركية. ويمكن وضع عرقلة تحرك الجيش السوري في خانة كسب الوقت لإتمام الانسحاب «بشكل آمن»، من دون إغفال أن ذلك يعطي الأفضلية لتركيا في التقدم أكثر داخل الأراضي السورية.

ويطرح المسار الحالي للأحداث تساؤلات عديدة حول مستقبل المنطقة التي تنسحب من فوقها المظلّة الأميركية. فما يجري، إن تم ضبطه عبر قنوات التنسيق بين روسيا وتركيا، سيكون نسخة معدّلة عن تطبيق «اتفاقية أضنة» التي تتيح لتركيا تدخلاً محدوداً لحماية أمنها. أما في حال تدخّلت القوات التركية ضد وحدات الجيش السوري، فستكون كامل خطوط التماس مهددة بالاشتعال من إدلب حتى شمال حلب وشرق الفرات، وهذا سيكون مكلفاً للطرفين، لا سيما بوجود نقاط مراقبة تركية قريبة من الجبهات، وإحداها مطوّقة بالكامل من قبل القوات السورية. وعلى جانب «قسد» و«الإدارة الذاتية»، فإن مستقبل البنى العسكرية والإدارية سيبقى رهن بنود الاتفاق غير المعلنة حتى الآن، غير أن التصريحات التي صدرت عن أوساط «قسد» ركّزت على إظهار الصفة العسكرية للاتفاق، مشيرة إلى أنه لا يتضمن شروطاً حول آليات «الإدارة الذاتية». ومن شأن نجاح انتشار القوات الحكومية بسلاسة في مناطق سيطرة «قسد» الحالية، أن يكرّس صيغة تعاون مرحلية، يتم اعتمادها إلى حين زوال «الخطر التركي». ويبدو لافتاً في إعلان «قسد» عن الاتفاق، التأكيد أنه يتضمن العمل على تحرير عفرين، وهو إشارة إلى أن الرهان على التعاون لا يحمل طابعاً دفاعياً فحسب.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى