سباق «فورمولا» بلا دخان ولا ضجيج؟ إنها الكهرباء وتقنيات الطاقة

 

تخيّل للحظة الصورة التالية: «شوارع تسير فيها سيّارات وباصات وشاحنات لا يخرج منها دخان ولا عوادم، بل ولا تسمع فيها ضجيج محركات، فيما أنفك يتنشق هواءً نقياً، وترتاح أذنيك لهدوء يخالطه همسٌ آتٍ من دوران الدواليب على الأرض». ألا تبدو صورة فائقة التناقض مع الواقع الذي تراه وتعيشه يومياً (بل تعيشه الأرض منذ ابتكار السيارة)، من شوارع تكاد تختنق بأدخنة المواصلات وعوادمها، وضجيج يتعب السمع والأعصاب؟ ماذا لو انقلبت حال المواصلات إلى نقيض ما هي عليه اليوم، وبدل أن تكون مصدراً أولاً للتلوث، تكون مساحة للطاقة النظيفة المتّصلة مع اقتصاد يعتمد مفهوم الاستدامة والحفاظ على الطبيعة ومصادرها وثرواتها؟

تلح عليك تلك الأفكار والصور لسبب بسيط، هو أنك تراها متحققة فعليّاً الآن، وليس مجرد حلم ترسمه الكلمات، بل أنها فرضت نفسها أحد أبرز مشاهد العلاقة بين السيارة والتلوث: سباق سيّارات «فورمولا» الشهيرة. ألا تحضر تلك السباقات على الشاشات بوصفها تجمعاً لسيّارات قوية، تصدر سحاباً من دخان أثناء اندفاعتها السريعة التي تدعمها محركات تصدر ضجيجاً يصمّ الآذان؟

والأرجح أن تلك الصورة وجدت نقيضها في سباقات « فورمولا إي» Formula E التي تتبارى فيها سيّارات رياضيّة لا تعمل إلا بالكهرباء، ولا تنفث غازات تلوث الهواء، بل تعمل محركاتها في هدوء تام.

وتحمل مسابقة السيّارات الرياضية الكهربائيّة التي انطلقت أولى دوراتها في بكين (الصين) 2014، اسم «إي بي بي فورمولا إي»، في إشارة إلى رعاية شركة «إيه بي بي» ABB السويسرية المتعددة الجنسيات لها.

وتعمل الشركة في الصناعات الكهربائيّة، وتهتم بالروبوت والطاقة والنُظُم المؤتمتة. وتظهر بشكل دائم في لائحة مجلة «فورتشن» للشركات الـ500 الأضخم عالمياً، مع الإشارة إلى أن رأسمالها يقارب أربعين بليون دولار.

حفاظاً على الكوكب الأزرق

تعمل شركة «إيه بي بي» انطلاقاً من مقرها في زيوريخ. وفي تلك المدينة السويسرية، أُجرِيَتْ منافسات الدورة الرابعة من «إي بي بي فورمولا إي»، على حلبة مؤقتة لا تبعد سوى مسافة قصيرة عن البحيرة الشهيرة في تلك المدينة. ربما ليس ذلك التجاوز عبثياً، إذ يشدّد منظمو مسابقة السيّارات الكهربائيّة على أنها تهدف إلى المساهمة في الانتقال إلى عصر المواصلات التي تعمل بوقود لا يستنزف مصادر الطبيعة، ولا يلوث البيئة، بل يدعم الطاقة المستدامة.

وبديهي القول إن السيّارات الكهربائيّة تستعمل تقنيّات متطوّرة في الطاقة وحركة الآلات. وبدا الاهتمام بالتطور التقنية في المركبات الكهربائيّة واضحاً لدى آلاف السويسريين والزوار الذين تابعوا ذلك السباق المثير والمحمل بعبق التفاؤل بمستقبل يتآزر فيه التقدم التقني مع الطاقة النظيفة والحفاظ على موارد الطبيعية والكوكب الأزرق.

ومنذ أن أصبحت «إي بي بي» راعياً للسباق، تدأب على توضيح أنه لم يعد سباقاً للسيّارات الأسرع، بل للأذكى والأكثر تقدماً والأقدر على التعامل مع الطاقة النظيفة.

وبصورة واضحة، وصف أورليش سبيسهوفر، وهو الرئيس التنفيذي للشركة، مسابقة «إي بي بي فورمولا إي» بأنها منصة تنافسية لاختبار التقنيّات الخاصة بالمواصلات وتطويرها. ورأى أيضاً أنها تساهم في تحسين أداء المكوّنات التكنولوجيّة للمركبات الكهربائيّة، بالإضافة إلى تسريع عملية الانتقال وانتهاج منظومة النقل النظيف عالميّاً.

وأضاف أن شركة «إي بي بي» تمتلك إرثاً كبيراً في الابتكار واستهلال عصر كهربة المركبات، كما تساهم حاضراً في كتابة مستقبل الصناعة (عبر الأتمتة Automation والرقمنة Digitization) وتؤجج ثورة الطاقة.

وتستكمل الصورة عن مواصلات المستقبل في مدينة جنيف السويسرية عبر باصات كهربائية كليّاً، باتت تجوب شوارعها بذكاء وصمت. واستعرض سبيسهوفر قصة نجاح باصات جنيف متحدثاً عن بطارياتها التي تتم عمليات إعادة شحــنها في محطات معينة خلال ثوانٍ معدودة، فيما الركاب يترجلون ويصعدون.

جرى تشغيل الباص الأول في كانون أول (ديسمبر) 2017 على الخط 23 في جنيف. وأدّى التوسّع في دائرة تشغيل تلك الباصات خلال الشهور القليلة الماضية، إلى خفض انبعاث آلاف الأطنان من ثاني أكسيد الكربون، إضافة إلى توفير وسيلة مواصلات جماعية نظيفة وآمنة وسريعة، تدعمها تكنولوجيا متقدمة.

على أعلى قمة في الألب

ليست التجربة مع الجيل الكهربائي في وسائل النقل البري حكراً على زيوريخ، إذ انتقل عدد من المراكز الحضريّة عالميّاً إلى القطارات الفائقة السرعة لتحسين الربط بين المدن بعضها ببعض، بل في دواخل المدينة الواحدة. كما انتهج عدد من المدن مقاربة في تطوير المواصلات تعتمد على القطارات الخفيفة وأنظمة المترو والترام لتخفيف حدّة الازدحام في الشوارع، وتشجيع الأفراد على الاستغناء عن سياراتهم الخاصة في التنقل، لا سيما في أيام العمل.

في ألمانيا، تنهض شركة «دويتشه بان» Deutche Bahn بعملية تطوير ضخمة للحافلات الكهربائية المستخدمة في النقل العام، بل زوّدت مجموعة منها بمحوّل لشحن بطاريات الحافلات بواسطة ذبذبات لاسلكية. وتملك الدولة تلك الشركة التي تعتبر الأضخم في ألمانيا، بل الثانية عالمياً.

وكذلك أخضَعت بريطانيا خطوطها في السكك الحديديّة، وهي الأقدم عالمياً، لعملية تحديث كهربائي شامل. وتبنّت الصين حلول الكهرباء وتطبيقاتها في دعم عملية تحـــول كبرى تخوضها خطوط السكك الحـــديدية هناك. وفي سويسرا نفسها، تعمل شركة «إيه بي بي» على تركيب محولات للقطارات من شأنها أن تضيف عشرين عاماً إلى عمرها الافتراضي.

وتستمر حركة الانتقال إلى مواصلات نظيفة سريعة آمنة، متحدية أصعب الظروف الجوية والجغرافية، إذ لم تقف جغرافية «جونغفراو» السويسريّة القابعة على أعلى قمة في أوروبا (3454 متراً)، أمام تبني تكنولوجيا الكهرباء في القطار. ومحطة القطار الأعلى أيضاً على ارتفاع لم تقف حائلاً أمام تطبيقات كهرباء القطار وحلولها. وبات ممكناً الاستمتاع بـ45 دقيقة هادئة في قطار صامت يعمل بتقنيّات «إيه بي بي» الكهربائية، لقطع تسعة كيلومترات إلى قمة جبال الألب الـسويسرية.

وفي تلك القمة، تعلم أن ثلاثة قطارات كهربائية تتحرك صعوداً وهبوطاً، مع ملاحظة أنها تستخدم تقنية لتحويل الطاقة المتولدة من الضغط على المكابح إلى كهرباء. وأثناء نزولها، تستخدم القطارات الثلاثة المكابح، فتولد طاقة كهرباء تكفي لدفع قطار صعوداً إلى تلك القمة!

الرياض محطة مقبلة لسيارات «إي بي بي فورمولا إي»

في مناسبة مرور ثلاثين عاماً على تأسيسها، أهدت شركة «إي بي بي» الراعية لمسابقات السيارات الكهربائية، مدينة زيوريخ 30 محطة شحن سيّارات كهربائيّة، ليرتفع عددها إلى 106 محطات. وتبلغ كلفة المحطة الواحدة قرابة 25 ألف يورو. وتهدف تلك الخطوة إلى زيادة عدد محطات الشحن كي يسهل على أصحاب السيّارات الكهربائيّة التحرك بسياراتهم في تلك المدينة. وعالمياً، بلغ عدد محطات شحن السيّارات الكهربائيّة التي شيدتها «إي بي بي» قرابة سبعة آلاف محطة.

وفي سياق أتمتة الصناعة المتصلة مع حلول الطاقة النظيفة، جاءت خطوة نوعية أخيراً من شركة «واندر إيه جي» السويسرية، وهي إحدى أبرز شركات إنتاج المواد الغذائية والحلويات. إذ دخلت السوق العالمية في عام 1865، واشتهرت بمنتجاتها المشتقة من الكاكاو. وتتبنى الشركة الاتجاه إلى الأتمتة الكاملة. وفي مقرّها الرئيسي في مدينة «نايونيغ» المتاخمة للعاصمة السويسرية بيرن، تعمل مجموعات من الروبوتات في عمليات نقل المنتجات وتفريغها وتحميلها. وتعمل روبوتات أخرى في مجالات تشمل الماكينات العملاقة المستخدمة في خلط الشوكولا بمقادير دقيقة ومراقبة المنتج النهائي واستبعاد المعطوب منها. وبفضل تلك الروبوتات التي تعمل ببرمجيات صنعتها شركة «إي بي بي»، يستطيع ذلك المصنع الصغير والذي لا يضم سوى عدد قليل من العمال، تصدير منتجات تكتظ بها أسواق بريطانيا والاتحاد الأوروبي.

وفي سياق متصل، ترعى سويسرا تجارب فعليّة للتحقيق مفهوم المنازل الذكية. وبفضل تقنيات «إي بي بي» في الأتمتة والرقمنة، صُنِعَت مجموعة من البيوت التي تدار بالأساليب الرقمية المؤتمتة، وتتميّز أيضاً بانخفاض حجم ما تستهلكه من الطاقة الكهربائية. وفي مقاطعة «بريتن» في زيوريخ، يوجد أول مبنى سكني يقطنه عدد من العائلات التي تعتمد كلياً على الشمس في الحصول على حاجاتها من الطاقة. وكذلك تعمل التقنية المستخدمة في ذلك المبنى على خفض معدلات استهلاك الطاقة إلى حدود متدنية تماماً.

ويصعب الانتهاء من الحديث عن مناحي الأتمتة في زيوريخ من دون الإشارة إلى «يو مي» Yu Mi، وهو روبوت- مساعد لإنجاز الأعمال، كما يعتبر نموذجاً في تحقيق حلم التعاون بين الناس والروبوتات. وبفضل تقنيات صنعتها «إي بي بي»، تتحرك يدا «يو مي» بسهولة ويسر، كما تتآزران مع كاميرا تحدّد مواقع الأشياء، ونظام تقني متطوّر يُمكّن ذلك الروبوت من إنجاز مهمات مبرمجة في حاسوبه.

في السياق عينه، تستعد مدينة الرياض حاضراً لاستقبال الجولة المقبلة من سباقات «إي بي بي فورمولا إي»، التي يتوقع أن تجري في منتصف كانون الأول (ديسمبر) المقبل، وهي المرّة الأولى التي تستضيف فيها السعودية ذلك السباق الدولي للسيّارات الكهربائيّة.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى