ستون عاماً على تأميم قناة السويس: هدية مصر لحركات التحرر
«تؤمم شركة قناة السويس البحرية شركة مساهمة مصرية». رغم مرور ستين عاما على تلك العبارة التي أطلقها جمال عبد الناصر من ميدان المنشية في الإسكندرية، إلا أن دلالتها ما زالت أقوى من الزمن الذي مر عليها.
كان قرار تأميم قناة السويس هو الرد الذي اختارته القيادة المصرية على شروط البنك الدولي القاسية لمنح مصر قرض بناء السد العالي. الشروط رأت مصر فيها إخضاعا للاقتصاد المصري للمصالح الاستعمارية التي كانت تكافح وقتها للتخلص منها.
ولكن رغم الدوافع المحلية للقرار الذي شكل تحديا غير مسبوق وقتها، إلا أن آثاره الإقليمية والدولية تجاوزت آثاره المحلية، والتي لم تكن قليلة على أي حال.
فالقرار وضع مصر اقتصاديا على أول طريق التنمية المستقلة، ودفعها للاعتماد على مواردها في بناء مشاريع التنمية التي تحتاجها لتشييد الدولة الحديثة. وكما ردت القيادة المصرية على تخاذل الرأسمالية العالمية بتأميم قناة السويس، ردت على تخاذل الرأسمالية المصرية بقرارات التأميم والمصادرة التي صدرت عام 1961. فبعد فشل الخطة الخمسية الأولى (1955 ـ 1960) التي أسند عبد الناصر 60 في المائة منها للقطاع الخاص، صدرت قرارات التأميم والمصادرة التي أطلق عليها «قوانين يوليو الاشتراكية»، ليعتمد نموذج اقتصاد الدولة المخطط مركزيا، والأقرب للنموذج السوفياتي وقتها، بدلا من اقتصاد السوق المعتمد على القطاع الخاص.
سياسيا، دشن القرار مرحلة جديدة من قيادة مصر لحركة التحرر في العالم الثالث وخاصة في المنطقة العربية وأفريقيا، فالقرار كان تحديا مباشرا لقوى الاستعمار القديم، إنكلترا وفرنسا، وكان الرد السريع عليها هو العدوان الثلاثي على مصر. هذه المواجهة التي أعقبت تنفيذ جلاء القوات البريطانية عن مصر في 1954، وضعت مصر كرأس حربة في مواجهة القوى الاستعمارية مجتمعة، ودفعت قوى التحرر الوطني للاصطفاف خلف القيادة المصرية واعتمادها كقيادة للتحرر الوطني في المنطقة وفي العالم الثالث ككل.
إقليميا كان تأميم قناة السويس يعني الكثير. فمجرد دخول إحدى المستعمرات البريطانية حديثة الاستقلال في تحد مباشر وصل حد المواجهة العسكرية مع بريطانيا وفرنسا حفز قوى التحرر الوطني في المنطقة ودفعها للتضامن مع مصر من ناحية وتصعيد حركات التحرر داخليا من ناحية أخرى. ومن جانب آخر، كان العدوان الثلاثي أول تحرك إسرائيلي في المنطقة كقاعدة استعمارية متقدمة، ما اعتبر شهادة ميلاد جديدة لإسرائيل، ليس كدولة حديثة التأسيس، ولكن كذراع استعمارية تعويضا عن جلاء قوات الاحتلال، وهو ما دمغ الفترة التالية بكاملها بعنوان الصراع العربي الصهيوني، وقطع الطريق على أي احتمال لإدماج الدولة العبرية في المنطقة، إلا بالتخلص من أنظمة التحرر الوطني ودعم وجود أنظمة حليفة للقوى الاستعمارية.
على الصعيد الدولي، بينما كانت تكتب شهادة إسرائيل كقاعدة استعمارية، كانت شهادة وفاة القوى الاستعمارية القديمة تكتب مع معركة التأميم، فإنكلترا وفرنسا المنهكتان من الحرب العالمية الثانية، ظهر مدى ضعفهما في مواجهة التحدي المصري، على الرغم من التفوق العسكري والمساندة الصهيونية. ولكن كان العملاقان الجديدان: الاتحاد السوفياتي وأميركا متأهبين لإحلال نفوذهما محل القوى القديمة. فكان التهديد العنيف لموسكو بضرب باريس ولندن بالصواريخ، ومطالبة واشنطن بوقف العدوان والانسحاب، إيذانا بتغير هام في خريطة القوى الدولية، تراجعت فيه مراكز القوى الاستعمارية التقليدية، انكلترا وفرنسا، وبدأت القوى الجديدة تتخذ وضع الاستعداد لبسط نفوذها في مناطق انسحاب القوى القديمة.
ولكن هذا التغير نفسه منح قوى التحرر الوطني فسحة من الوقت والمناورة لبناء قدرتها على الاستقلال والاستفادة من تناقض مصالح القوى القديمة والجديدة من ناحية، ومن تناقض مصالح القوى الجديدة وبعضها من ناحية أخرى.
أشرف مؤنس أستاذ التاريخ الحديث بجامعة عين شمس يقول في حديثه لـ «السفير» انه «عقب الحرب العالمية الثانية وفي مطلع الخمسينيات، كانت المنطقة تبدو في حالة فراغ. بريطانيا وفرنسا لم تعودا كما كانتا قبل الحرب. والولايات المتحدة كانت تفكر في ملء الفراغ عبر حلف الناتو. عبد الناصر رفض دعاوى بناء الأحلاف العسكرية تحت رعاية استعمارية. وكان رافضا لإحلال استعمار محل آخر. وكان مع استقلال فعلي لا شكلي».
ويضيف مؤنس: «المنطقة كانت في صراع بين مشروعين: مشروع إحلال استعمار محل آخر، ومشروع قومي عربي بقيادة عبد الناصر. وشروط البنك الدولي كانت الباب لعودة النفوذ الاستعماري عبر بوابة الاقتصاد، لذا رفضها عبد الناصر».
ويوضح مؤنس «مع ذلك لم يكن اعتبار قرار تأميم القناة مجرد رد فعل على شروط البنك الدولي، لأن سيناريو تأميم القناة كان موجودا بالفعل وقضية التأميم كانت مطروحة منذ العام 1910، ولكن الظروف لم تكن مواتية».
ويؤكد مؤنس «قرار التأميم أدى لتحول كبير، فقد التَفَّتِ القوى الوطنية والتحررية في المنطقة العربية وأفريقيا حول عبد الناصر، فاعتبر الأب الروحي للتحرر الوطني في المنطقة، خاصة أن قرار التأميم جاء بعد مؤتمر باندونغ في العام 1955 والذي اعتمدت فيه دول عدم الانحياز استراتيجية الحياد الإيجابي. وعلى الصعيد الداخلي، وفر القرار لمصر القدرة على بناء مشروع السد العالي وهو ما وفر الطاقة الكهربائية للتصنيع ووفر المياه لاستصلاح الأراضي ودفع بقوةٍ خططَ التنمية».
حتى قبل حفرها، كان مشروع قناة السويس نقطة تحول مركزية في وضع مصر، وكان عاملا أساسيا في مصير المنطقة وأوضاعها السياسية، وكان مركز اهتمام دولي. وكان كل حدث يتعلق بقناة السويس يمثل مرحلة جديدة، من حفرها لتشغيلها لتوسيعها لتأميمها لإغلاقها وإعادة فتحها. ولكن يبقى تأميمها هو الحدث الأكثر مصرية في كل مراحل عمر قناة السويس، وهو بالذات الحدث الذي دخلت مصر فيه في التحدي الأكبر في عصرها الحديث واضطرت لمواجهة جيوش ثلاث دول.
كان تأميم قناة السويس رفضا من قبل القيادة المصرية وقتها لشروط البنك الدولي، والاندماج في السوق العالمي وفق شروط القوى الكبرى، وإيذانا ببدء مشروع تنمية ذاتية يضع احتياجات وأولويات البلاد قبل أي شيء. وقبل ما يقرب من عام واحد، افتتح السيسي توسعات قناة السويس الجديدة تحت عنوان «هدية مصر إلى العالم». كانت الهدية تتمثل في تقديم بيئة استثمارية مواتية لرؤوس الأموال من أنحاء العالم، وإعادة ترتيب أولويات التنمية وفق قواعد السوق ومصالح المستثمرين، ونصائح البنك الدولي وصندوق النقد الدولي التي سبق ورفضها عبد الناصر قبل 60 عاما.
منذ تأميم القناة جُرَّ الكثير من المياه في الممر الملاحي، وعبرت الجيوش ضفتيها مرات عدة في صراع مرير للتحرر من الهيمنة الاستعمارية. وبعد ستة عقود من قرار تأميمها الذي كان بحق هدية لشعوب المستعمرات وقوى التحرر الوطني، عادت القناة لتقدم مرة أخرى هدية ولكن للشركات الكبرى.
قناة السويس
تعتبر قناة السويس أقصر طريق يربط بين الشرق والغرب وذلك بسبب موقعها الجغرافي الفريد، وهي قناة ملاحية عالمية تصل بين البحر المتوسط عند بورسعيد والبحر الأحمر عند السويس، ويسبغ عليها هذا الموقع الفريد طابعاً من الأهمية الخاصة للعالم ولمصر كذلك.
إيرادات القناة خلال الربع الأول من العام الحالي (2016) زادت عن الفترة نفسها من العام الماضي (2015) بمقدار 592.4 مليون جنيه رغم انخفاض حجم التجارة العالمية، وبلغت نحو 9.964 مليارات جنيه مصري.
مميزات القناة:
ـ أطول قناة ملاحية في العالم بدون أهوسة.
ـ نسبة الحوادث فيها تكاد تكون معدومة بمقارنتها بالقنوات الأخرى.
ـ تتم حركة الملاحة فيها ليلاً ونهاراً.
ـ مهيأة لعمليات التوسيع والتعميق ومزودة بنظام إدارة حركة السفن بأحدث شبكات الرادر والكمبيوتر.
ـ تستوعب القناة عبور السفن بحمولة مخففة، لحاملات النفط الخام الكبيرة جداً والضخمة.
قناة السويس الجديدة: قناة جديدة موازية، تهدف إلى:
ـ زيادة الدخل القومي المصري من العملة الصعبة.
ـ تحقيق أكبر نسبة من الازدواجية في القناة وزيادتها لنسبة 50 في المئة من طول المجرى الملاحي.
ـ تقليل المدة الزمنية للعبور لتكون 11 ساعة بدلاً من 18 ساعة لقافلة الشمال.
ـ تقليل زمن الانتظار للسفن ليكون 3 ساعات في أسوأ الظروف بدلاً من 8 إلى 11 ساعة.
ـ الإسهام في زيادة الطلب على استخدام القناة كممر ملاحي رئيسي عالمي ورفع درجة تصنيفها.
ـ زيادة القدرة الاستيعابية لمرور السفن لمجابهة النمو المتوقع لحجم التجارة العالمية في المستقبل.
العائد والنتائج من المشروع:
ـ زيادة القدرة الاستيعابية للقناة لتكون 97 سفينة قياسية في العام 2023 بدلاً من 49 سفينة في العام 2014.
ـ تحقيق العبور المباشر من دون توقف لعدد 45 سفينة فى كلا الاتجاهين مع إمكانية السماح لعبور السفن حتى غاطس 66 قدماً في جميع أجزاء القناة.
ـ زيادة عائد قناة السويس بنسبة 259 في المئة في العام 2023 ليكون 13.226 مليار دولار مقارنة بالعائد الحالي 5.3 مليارات دولار، ما يؤدي إلى الانعكاس الإيجابي المباشر على الدخل القومي المصري من العملة الصعبة.
ـ زيادة فرص العمل لأبناء مدن القناة وسيناء والمحافظات المجاورة مع خلق مجتمعات عمرانية جديدة.
صحيفة السفير اللبنانية