
كثيرون دخلوا سجن تدمر الصحراوي العسكري، وكان ذائع الصيت بقسوته وغرائب أفعال سجانيه وطرق الإعدام والتعذيب التي كانت سائدة فيه. ومنذ أن افتتح سحن صيدنايا ، أو السجن العسكري الأول، كما يسمى في سجلات الأجهزة الأمنية، بدأ يصنع سمعته الخاصة المتعلقة بالمأساة الإنسانية للمعتقلين فيه وكأن أجهزة القمع البائدة أرادت أن تجدد سمعة الماضي بحاضر أبشع منه ، فيترحم السوريون على سجن تدمر.
في الآونة الأخيرة وردتني فيديوهات وروابط لمواقع كثيرة عن سجن تدمر يقوم الناجون منه بتصويرها بعد سقوط النظام في الثامن من كانون الأول 2024 ، بل إن بعض هؤلاء شكلوا رابطة باسم معتقلي سجن تدمر، وقاموا بعدة رحلات إلى هناك وثقوا فيها تاريخ معاناتهم.
وأنا أعرف هذا السجن، عشت فيه مع آلاف المعتقلين فترة طويلة، ، وكل ما اطلعت عليه في تلك الروابط التي وردتني لم يزد من معلوماتي عنه، بل على العكس بدت المعلومات أقل من الواقع الذي أعرفه.
ما ذا يعني سجن تدمر؟!
هو واحد من أدوات القمع العربية الكثيرة الموزعة بعناية لكبح جماح أي نشاط أو تمرد سياسي ضد الحكام، وهناك نماذج كتب الأدباء والسجناء الكثير عنها، حتى سجن تدمر، نشرت عنه مئات التقارير والأخبار والوثائق ، وأقل ما يمكن أن نذكره اليوم هو أن أكثر من مائتي ألف معتقل لقوا حتفهم فيه، وأقصد هنا المحكومون بالإعدام عبر المحاكم الميدانية الذي قارب عددهم حسب بعض المصادر 35 ألف محكوم تم تنفيذ الحكم فيه، أو الذين سقطوا نتيجة التعذيب والضرب بوحشية تصل إلى الموت ولايمكن تقديم إحصاء دقيق عنهم.
أيضا لم يتم الكشف حتى الآن عن المقابر الجماعية التي كانت تدفن فيها الجثث، بل على العكس طغت المقابر الجماعية الجديدة في أنحاء دمشق التي ضمت رفات عشرات الألوف، على تلك التي أقيمت في محيط منطقة تدمر حيث يقع السجن .
الغريب في المسألة أن أغلب مرتكبي جرائم قتل وتعذيب المعتقلين في هذا السجن لازالوا على قيد الحياة، ويرجح أن بعضهم موجود في سورية، ويشمل هؤلاء العناصر والضباط وضباط الصف الذين اشتغلوا فيه، والذين من الطبيعي أن يتعرضوا للمحاسبة والتحقيق العادل حتى لو سقطت جرائمهم بالتقادم.
هذا السجن ضم الكثير من الشخصيات السياسية والثقافية والعلمية من بينهم رئيس الدولة الأسبق الرئيس الراحل نور الدين الأتاسي، ومن بينهم قادة معروفون في الأحزاب السياسية الشهيرة كحزب الإخوان المسلمين والحزب الشيوعي السوري وحزب اليعث الديمقراطي وحزب البعث الموالي لصدام حسين إضافة إلى رابط العمل الشيوعي واتحاد الشغيلة والتجمعات الناصرية والمكتب السياسي رياض الترك وهناك عدد كبير لايحصى من الضباط والعسكريين المعارضين الذين ضمتهم جدران السجن..
إن كثيراً من معتقلي هذه الأحزاب والجماعات الذين ظلوا أحياء شهدوا على جرائم هذا السجن، وأنا كنت واحدا منهم ، سجلتُ نحو ألف صفحة عن وقائع جرت فيه شهدتها بنفسي أو سمعتها من الرواة الذين عاشوها، ولم يكن هاجسي يذهب نحو السيرة الذاتية، أو ترويج معاناتي الخاصة، الذي كان يهمني على هذا الصعيد، هو إنجاز بحث توثيقي يتعلق بالسجن السياسي السوري.
ومع ذلك لم أتوان عن السعي من أجل كتابة نص روائي، وأنا اشتغلُ عليه منذ عشرين سنة، لأني أريده مغايرا لكثير مما كتب وأتمنى أن أنجزه قريبا قبل أن أموت.
السؤال الذي يطرح نفسه يتعلق بروح العدوانية التي يتصف فيها أولئك الذين عملوا كسجانين، بدءا من مديره الأشهر ( العقيد فيصل غانم ) ووصولا إلى أصغر ضابط صف فيه..
إن الحديث عن سجن تدمر الآن لايهدف إلى زيادة الاتهامات للنظام السابق، فلديه سجلات حافلة ليست بحاجة إلى مقال عابر، ولكن المسألة تتعلق بالمجتمع السوري نفسه، إننا كسوريين نريد الآن وبكل وعي وحرص وأمانة أن لاتوافق الدولة بكل جهاتها على سجون من هذا النوع، على الدولة والمجتمع أن يدين هذا السلوك العنفي ضد السياسيين والمتهمين بجرائم تتعلق بأمن الدولة كما كانت تسمى ، وأن تسعى لمعاملتهم وفق القانون .
على المجتمع أن يبني على عدالة تتبنى منهج العقاب الذي يوافق حضارة الانسان، فإذا كان القاتل والمهرب والفاسد يعامل في السجون القضائية بعدالة ومنهجية قانونية، لماذا يعامل السياسي على نحو آخر؟ تلك كانت اللغز المحير في سياسة آل الأسد .
ينبغي أن نفكر جيداً في هذا الموضوع، ونحن نسعى مع الجميع لبناء مستقبل آخر لسورية، لايوجد هذا السواد من الحقد والكراهية والقمع !
بوابة الشرق الأوسط الجديدة



