سجن “جلبوع” والمخاوف الإسرائيليّة من انتفاضة ثالثة
إلقاء القبض على بعض الأسرى من مجموعة الستة الأبطال، لا يتنافى مع نجاح العملية التي قادت إلى تحررهم الإثنين الماضي من سجن “جلبوع ” ولا يتعارض ذلك مع تمكنهم من انتزاع حريتهم في عملية تتصف بالإبداع وبقوة الإرادة التي هزمت فولاذ أعتى السجون الإسرائيلية وأكثرها تحصيناً.
إن تنفيذ 6 أسرى فلسطينيين عملية التحرر من سجن جلبوع، بقيادة الأسير محمود العارضة، في السادس من شهر أيلول/سبتمبر الجاري، يفتح شهية أي قارئ لتاريخ الثورة الفلسطينية المعاصرة للسعي لإجراء مقارنات بين تلك العملية وعملية التحرر الكبير من سجن غزة المركزي في 18 أيار/مايو 1987 بقيادة الشهيد مصباح الصوري ورفاقه.
وما يزيد من تلك الرغبة في إجراء المقارنات أنَّ كلا العمليتين نفذها أسرى يتبعون حركة “الجهاد الإسلامي”، ولكن في هذا المقال سنحاول أن نضيء على قضية المخاوف الإسرائيلية من عمليات التحرر، وكيف تنظر الأجهزة الأمنية الإسرائيلية إلى تداعيات نجاح أسرى فلسطينيين في الهروب من السجون الإسرائيلية على الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بمعزل عن اعتقال اثنين منهم في وقت لاحق.
نشر الصّحافيان الإسرائيليان زئيف شيف وإيهود عاري، المختصان بالشأن الفلسطيني، كتاباً بعنوان “الانتفاضة” في العام 1991، تحدثا فيه عن تداعيات تحّرر 5 أسرى من حركة “الجهاد الإسلامي” من سجن غزة المركزي، ما دفع شيف وعاري إلى كتابة أنّ “الهروب الجريء كان نقطة انطلاق لأسطورة البطولة التي تراكمت بسرعة حول هذا التنظيم الصغير”، أي “الجهاد الإسلامي”، الأمر الَّذي جعلهما يربطان بين اندلاع انتفاضة الحجارة في العام 1987 وعملية الهروب وما تلاها من سلسلة عمليات فدائية نوعية قام بها منفذو الهروب ضد الاحتلال الصهيوني، إذ كتبا “أنَّ العمليات العسكرية التي قام بها الأسرى الفارون كانت عود الثقاب الذي أشعل النار في كومة قشّ الضّائقة والإهانة”.
انتبه كلٌّ من زئيف شيف وإيهود عاري إلى قضية الروح المعنوية التي أحدثتها عملية التحرر من سجن غزة المركزي، وكيف تحوَّل مصباح الصوري ورفاقه إلى أسطورة نضالية فلسطينية، باتت نموذجاً للمحاكاة من قبل الشباب الفلسطيني، إضافة إلى أنَّ نجاح عملية الهروب ساعد على كسر حاجز العجز أمام الشباب الفلسطيني في مواجهة الآلة العسكرية والأمنية الإسرائيلية، بمعنى أن أسطورة الأمن الإسرائيلية التي لا يمكن أن تقهر استبدلت بها أسطورة إرادة المقاوم الفلسطيني التي لا تُهزم، والتي تستطيع تنفيذ المستحيل وتحقق انتصارات على “إسرائيل” بأقل الإمكانيات، الأمر الذي جعل الباحث في معهد الأمن القومي الإسرائيلي كوبي ميخائيل يكتب مقالاً يعتبر فيه أنَّ “الهروب من سجن جلبوع بمثابة رياح جديدة في أشرعة أسطورة المقاومة الفلسطينية”، بل وصل ميخائيل إلى استنتاج شيف وعاري قبل 30 عاماً، عندما اعتبر أنَّ “عملية الهروب من سجن جلبوع تحوّلت إلى الشعلة التي ستشعل حقل الأشواك”، ويقصد بذلك الضفّة الغربيّة.
تخشى أجهزة الأمن الإسرائيلية أكثر ما تخشاه أن تبرز نماذج مقاومة في الضفة الغربية، يعمل الشباب الفلسطيني في الضفة الغربية بشكل خاص، وفي فلسطين كلّها بشكل عام، على الاقتداء بها، وأن تلتف حولها مجموعات من الشباب الفلسطيني، وبالتالي تتشكَّل نواة مقاومة مركزية في الضفة الغربية، الخاصرة الرخوة للأمن الإسرائيلي. وما يزيد من هذه المخاوف الأمنية الإسرائيلية عدة عوامل، أهمها:
أولاً، تعتبر قضيّة الأسرى الفلسطينيين محلَّ إجماع شعبي، وبالتالي تمتلك القدرة على توحيد كلّ أطياف الشعب باختلاف توجّهاتهم السياسية والأيديولوجية والمناطقية، الأمر الَّذي يعيد وحدة الحال الفلسطينية مرة أخرى؛ تلك الوحدة التي خبرت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية خطورتها في معركة الدفاع عن القدس والمسجد الأقصى، إذ وجدت “إسرائيل” أنها تحارب على كل جبهات التواجد الفلسطيني في آن واحد. وفي حال استمرار توغّل إدارة السجون الإسرائيلية وتنكيلها بالأسرى، لن يكون مستبعداً أن تتدحرج الأمور إلى معركة جديدة، قد تكون “سيف الأسرى”، على غرار معركة “سيف القدس”.
ثانياً، إنَّ ارتفاع منسوب الشعور بالكرامة والعزة والإباء الوطني لدى كلِّ أبناء الشعب الفلسطيني جراء عملية انتزاع الحرية، وتحوّل هؤلاء الأبطال الستة إلى أيقونات وطنية عابرة للسياسة، فرضا واقعاً جديداً على كلِّ الاتفاقيات الأمنيّة بين “إسرائيل” والسّلطة الفلسطينيّة، إذ ستنحاز عناصر الأجهزة الأمنيّة الفلسطينية بالتأكيد إلى واجبها الوطني، بعيداً عما يُسمى التنسيق الأمني مع الاحتلال السيئ الصيت والسمعة الوطنية، وبالتالي لن تستفيد “إسرائيل” من تلك الاتفاقيات الأمنية في ملاحقة منفذي العملية المتبقين، بل إن احتمال نشوب مواجهة بين قوات الاحتلال وعناصر الأجهزة الأمنية الفلسطينية بات ضمن الاحتمالات الإسرائيلية، الأمر الذي يتطلّب إضافة أعباء مادية وبشرية إلى “الجيش” والأمن الإسرائيلي لم تكن في الحسبان، ما سيزيد من صعوبة عمليّة ملاحقة منفّذي العملية وتعقيدها.
ثالثاً، الأسرى الستّة من جنين، وبالتالي يعتبر لجوء المتبقين إلى المدينة احتمالاً كبيراً، وخصوصاً مع قرب المسافة الجغرافية بين سجن جلبوع وبينها، الأمر الَّذي تعتبره أجهزة الأمن الإسرائيليّة كارثة أمنية كبرى على الحالة الأمنية الإسرائيلية في الضفة الغربية، وبالتالي سيتحوّل الأبطال الأسرى، بما يحملونه من احترام أسطوري في جنين، إلى إضافة نوعيّة هناك، إضافة إلى خبرتهم العسكرية السابقة قبل الاعتقال وما طوّروه من تجارب أمنية فذّة أوصلتهم إلى مستوى الانتصار في معركة الأدمغة على منظومة الأمن الإسرائيلية كاملة، الأمر القادر على إحداث نقلة نوعيَّة في العمل المقاوم هناك، وخصوصاً أنَّ البيئة الأمنية والعسكرية في جنين مهيأة لذلك، ناهيك باحتمالات تصدير تلك الحالة إلى باقي مناطق الضفة الغربيّة.
رابعاً، تدهور الأوضاع الأمنية في الضفة الغربية، وازياد احتمال وقوع عمليات فدائية فلسطينية على غرار عمليات انتفاضة الأقصى الفدائية في العام 2000، سيحدان من قدرة “إسرائيل” على التّصعيد العسكريّ والأمنيّ في الجبهات الأخرى، إذ سيكون من الصعب عليها أن تذهب إلى أي مواجهة وخاصرتها الرخوة في الضفة الغربية مكشوفة، الأمر الذي تنتج منه تبعات سلبية على قضايا الأمن القومي الإسرائيلي في الجبهات الأخرى، والتي تعتبرها “إسرائيل” أكثر استراتيجيّة وحيويّة لأمنها، لكن يبقى الخوف الأكبر لدى أجهزة الأمن الإسرائيليّة أن يعيد التاريخ نفسه، وعمليّة انتزاع الحرية تبشّر باندلاع انتفاضة فلسطينيّة ثالثة في الضفّة الغربيّة.