سرد بوصفه شغفاً: عن الرواية وآفاقها
على الرغم من صدور عشرات الروايات في العراق، والانتشار السريع لقسم كبير منها خلال السنوات الأخيرة وتنافسها بقوة في مجال الجوائز العربية، فإن محاولة تأطيرها في اتجاه سردي له ملامح خاصة تُعدّ مطمحا يحتاج إلى قراءات ودراسات نقدية معمقة ينجزها أكثر من ناقد ودارس، لاستكناه التحولات البنائية والأسلوبية والدلالية التي ميزتها عن الإرث السردي للأجيال الروائية السابقة.
في كتابه “سرد بوصفه شغفاً: عن الرواية وآفاقها”، الصادر عن دار الشؤون الثقافية في بغداد، ضمن سلسلة الموسوعة الثقافية، يحاول الروائي والقاص حميد الربيعي الوقوف على الملامح الخاصة التي تشكل هذا الاتجاه.
يطل الربيعي على عالم الرواية وآفاقها من زاوية الشجون التي تعترض مسيرتها، فيتناول من جهة مسألة تسمية “المدرسة السردية”، ويرى أن “الواقعية الغرائبية” من أقرب التسميات، كونها تتطابق مع الواقع العراقي، لما يعتريه من إشكالات بنيوية في تركيبة المجتمع، وما رافق العملية السياسية بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، ذلك أن غربة المواطن في البلد، وعدم التآلف والانسجام بين مشاعره ووجدانه مقابل الكوارث الاقتصادية والاجتماعية تجعله أقرب إلى الشعور بأن بونا شاسعا يعتري وجدانه ويقصيه.
في مجال آخر يلقي الربيعي الضوء على ما واجه نهوض الرواية العراقية، خاصةً في مرحلة نضجها، من إغفال وسائل الإعلام لها، وإهمال متعمد من طرف المؤسسات الحكومية، ما جعل من جهد الروائيين مضاعفاً في تسويق إنتاجهم محلياً أو خارجياً. ففي الكتاب ثمة إشارات جلية إلى نوعية هذا الإهمال، وتسليط الضوء على التركيبة السياسية للإعلام العراقي، وعدم جديته في التعامل مع الحراك الثقافي في البلد، وافتقاره إلى الخبرة في صناعة النجوم، رغم فوز أسماء مهمة في السرد بجوائز عربية وعالمية مثل “البوكر” و”كتارا” و”نجيب محفوظ”.
قسّم الربيعي الكتاب إلى قسمين وسبعة عشر مبحثاً ركّزت على السرد في تمظهراته الجمالية والأسلوبية والدلالية، وحملت مجموعة عناوين منها “الواقعية الغرائبية مدرسة للسرد”، “ميتا سرد حوادث التاريخ”، المحظور والمتخيّل في الرواية”، “بنية السرد وتحريكه”، “أسطرة المكان وأنسنته”، و”السرد وثيقة اجتماعية”.
تناول في القسم الأول العناصر الفنية للرواية سواء من ناحية تحريك النص السردي ليتجاوب مع متطلبات المرحلة، أو إضاءة جوانب مهمة في البنية لم يتداولها كتاب السرد بوضوح، منها، مثلاً التداولية في اللغة أو المحظور والمتخيل، ومتعة القراءة أو ميتا سرد التاريخ. ويقف في هذا القسم على المعادلة الدقيقة التي يواجهها السارد في تناوله لحدث تاريخي، من ناحية كيفية التعامل مع الأرشيف التاريخي، ونوعية الرؤية التي يجب أن يتخذها الكاتب في الرواية، ويؤكد أن التاريخ ليس كله صالح للسرد، لكن انتقاء المادة وطريقة معالجتها فنياً هما الأهم، حيث أن رواية ما بعد الحداثة تتيح للمؤلف حرية تحريك شخوصه، أو طريقة القص، أو التوقف عن الإيهام الذي يتلبس به القارئ للمادة التاريخية، من خلال تقنية الميتا سرد التي يتعدد فيها الرواة.
وإلى جانب موضوعة التاريخ، يأخذنا المؤلف إلى مرويات الموروث، التي رسخت في الوجدان الجمعي للشعوب، وأصبحت مادة أساسية في تحريك الناس أو أثارة المشاكل، كما نرى الآن في التطرف الديني والمذهبي، فالمرويات الكبرى التي وصلتنا تتطلب تفكيكها وإزاحتها لما سببته من إشكالات اجتماعية وسياسية حالت دون تطور المجتمعات العربية، ولابد من إزالتها بسرديات جديدة تجعل من الإنسان وذاته مركز الاستقطاب والأهمية. ويذهب الربيعي إلى أن هذه الظاهرة تحتاج إلى تضافر جهود كثير من المؤسسات على مر الأيام، ويضرب مثلاً عليها في العراق بمواضعات الأعياد والأفراح والأحزان في تركيبة المجتمع.
في القسم الثاني يقدم الكتاب مقاربات نقدية لخمس روايات عراقية، ومثلها روايات عربية وعالمية، من خلال دراسة مقارنة بين رواية “مخيم الموراكة” للروائي العراقي جابر خليفة جابر ورواية “الخيميائي” للروائي البرازيلي باولو كويلو، من جهة “البحث عن الآخر”، وثيمة الرواية في تناولها له وكيفية التعامل معه، سواء بالذهاب إليه، كما في رواية “الخيميائي”، أو بالدخول إلى عقر داره، كما فعلت رواية “مخيم المواركة”. وفي مقاربة أخرى يجمع الربيعي بين رواية “المسكوبية”، للروائي الفلسطيني أسامة العيسة، ورواية “عمكا” للروائي العراقي سعدي المالح في “أسطره المكان”، فالأولى تسلط الضوء على بناء السجن/الخان، القريب من القدس، والثانية تحاول أن تؤسطر منطقة عينكاوا، القريبة من مدينة أربيل.
خلاصة ما يمكن قوله عن هذا الكتاب إن الموضوعات التي تناولها فيه حميد الربيعي تغوص في شجون الرواية العراقية، في محاولة حريصة على رسم بعض معالم السرد الروائي الجديد في العراق، الذي يسعى كتّابه إلى تشكيل هوية خاصة به.
يُذكر أن حميد الربيعي غادر العراق عام 1979، لأسباب سياسية، وتنقل بين الكويت وبلاد المغرب العربي والنمسا، وعاد إلى بغداد بعد 30 عاماً. صدرت له حتى الآن خمس روايات هي “سفر الثعابين”، “تعالى وجع مالك”، “جدّد موته مرتين”، “دهاليز الموتى”، و”أحمر حانة”، ومجموعتان قصصيتان احداهما بعنوان “تل الحرمل”، والثانية بعنوان “بيت جني”. وقد وصف بعض النقاد روايته الأخيرة “أحمر حانة”، التي تناولت فكرة الشر حين يدامس المكان والإنسان والوجود والحرية والخيانة والخوف والخطيئة، بأنها تجاوزت الخطوط الحمراء، ووظفت التاريخ والأساطير بأسلوب سردي مبتكر.
ويهتم العراق بمختلف الأجناس الأدبية والفكرية ويحرص على نشر ثقافة القراءة في نفوس الأجيال الجديدة والصاعدة.
ميدل إيست أون لاين