سرد حسن داود تطريز متأنٍ وتأويل دقيق

«كنت أعرف أنني لن أبادر معها إلى شيء»، يُفكِّر سالم، بطل رواية حسن داود الأخيرة «في أثر غيمة» (دار الساقي، 2017). وسالم هذا منفرد بلمى في قمرة مركب سياحي عائم على نهر، وجالس إلى جانبها على حافة سريره. وهي مرشدة سياحية شابة في المركب، لكنه لا يدري إن كان يرغب في الإقدام على الوصول معها إلى أبعد من ملامسة يدِه ليدِها، أي إلى ذاك المكان الغامض الذي بات عاجزاً عن تخيّله.

هو حائرٌ في مشاعره ليس لافتقار لمى إلى الجمال، ولا لأنه مخلص لامرأة ما سواها. فهو ترك وراءه زوجةً لا نعلم إن كانت ماتت أم انفصل عنها. لكن علاقاته بالنساء انقطعت منذ زمن. ذلك لأنه كهلٌ تجاوز الستين من عمره، فصارت تُربكه وحتّى تُذعِره لعبة الإغواء. أو هكذا هو يَظنّ على الأقلّ.

سالم صحافيٌّ متقاعد وشاعر، قرر الذهاب في رحلة قصيرة على متن مركب سياحيّ عبر النهر، حيث يعتقد أنه سينعم بهدوءٍ وراحة بالٍ مواتيَين للكتابة والقراءة. لكنه لن يكتب ولو كلمة واحدة، ولن يقرأ إلا الصفحة الأولى من رواية موراكامي الضخمة «1Q84»، إذ سيجد نفسه وجهاً لوجه أمام تقدّمه في السن، أمام صورة الكهل العازب التي يلمحها في النظرات المُرتابة بعض الشيء، لأولئك السيّاح الذين أتوا جميعهم أزواجاً. وحين يَلحظ أن لمى، الدليلة السياحيّة على الباخرة، قد تُبدي نحوه شيئاً من الاهتمام، يدخل في متاهة من التردّد والقلق والحيرة، لن يخرج منها طوال الرحلة التي سيمضيها منتظراً أن تقوم هي الشابة بالخطوة الأولى، فالثانية والثالثة، مرجئاً في كلّ مرّة المبادرة إلى التقدم أو الإقدام معها على خطوة جديدة. وبدل ذلك، يقفل على نفسه باب قمرته منتظراً أن تطرقه لمى في وقت متأخر من الليل، بعدما تواعدا على اللقاء في غرفته. وعندما تطرق الباب، لا يفتحه.

الكتابة والعالم
«لقد انقضى وقت طويل على حبسي رغبتي، بل على تجاهلها»،
يقول سالم في نفسه. هو يرى أن شهوته ما زالت كما هي: شهوةٌ فتيّة، وليست كتلك التي يَتخيَّل أن على كهلٍ في مثل عمره أن يختبرها. لكنها شهوة سجينة اعتاد على إبقائها في داخله، في دنيا التهويمات المحضة، فصارت تُرعبه مجرد فكرة إشباعها في العالم الخارجي. ذاك أن عليه هناك، في العالم الخارجي، أن يغوي، أن يبادر إلى سلسلة من الأفعال لم يعد يُجيدها منذ زمن، كما أن الشهوة لن تبقى، في هذه الحالة، شهوة فتيّة، بل ستلتصق به، هنا الآن، كما هو، كهلٌ ستينيٌّ حائرٌ متردد.

هذا باختصار تبرير الراوي لإرجائه. ولكن ثمّة سبب آخر لتصرّفه على هذا النحو. سببٌ بالغ الأهمية، إن لم يكن حتّى الأهمّ، ويقع خارج النص الروائي هذا بعينه. وهو سبب كتابي وأسلوبي في الكتابة وفي رؤية العالم، ألا وهو أن سالماً واحدٌ من أبطال حسن داود الروائيين النموذجيّين. فمقاربة العالم والعلاقات البشرية، الجسدية والنفسية والعاطفية، مقاربة مجهريّة بصرية، بمزيج من الحيرة والتردد والقلق الداخلي، هي من المميزات الأساسية لأبطال حسن داود أو رواته.

صحيحٌ أن لكلٍّ منهم ظروفاً محددة مختلفة، لكن هؤلاء الرواة يتقاطعون في اتخاذهم موقعاً أو موضعاً على مسافة مباعدة من الحياة والعالم. كأنهم ينسحبون منهما وينطوون على أنفسهم لمراقبتهما تلك المراقبة الدقيقة المتأنية البطيئة، فينزعون عنهما سحرهما ويرْوُون ذلك الانسحاب الذي يبدو لصيقاً بفعل الكتابة نفسه، ولا كتابة بدونه. هذه هي حال ذاك المشوّه جسمانياً في رواية «غناء البطريق». وحال الشيخ المصاب بالسرطان في «لا طرق إلى الجنّة». وحال بائع العصافير الجوال البائس وشبه الأبكم في «مئة وثمانون غروباً». وحال الجدّ الطاعن في السن في «أيام زائدة». وحال راوي «نقل فؤادك» الستيني الباحث عن فتاة أحبها أيام مراهقتة على مقاعد الدراسة، مرجئاً على الدوام بحثه هذا.

لكن هذه الحالات من الانسحاب المفرط من العالم والفعل، من القلق والارتباك الدائمين، بل اللافعل، تتعدّى كونها نتيجةً للظروف المذكورة، لتُشكّل تفاصيل متشابهة في ما بينها، لتأليف لوحة جدارية كتابية ضخمة يرسمها المؤلِّف من كتاب إلى آخر.
هذا النمط من الشخصيات مفتاحٌ لفهم أسلوب حسن داوود الكتابي ولاحدثيّته في رواياته. فسرده المتأنّي للغاية، يُشبه التطريز البطيء للاعتناء بتأويل أدقّ الأمور والحركات، وللإفصاح عن جميع المعاني المُحتملة لكلّ إيماءة عابرة، أو نظرة خاطفة، أو ابتسامة بالكاد مرئيّة.

وهذا كله ليس إلا تمثيلاً وتمثّلاً لمتاهة القلق والحيرة، الالتباس والشكّ، التي يسكنها أبطاله. ومنهم سالم «في أثر غيمة». والسرد هذا يسجن القارئ في عقل شخص يُعاني من أشدّ أنواع الإرجاء والانسحاب من العالم الخارجي، ليبقى قابضاً على رغبته داخل وعيه، حيث يسعى إلى تفتيتها ومراقبتها والانشغال بتفاصيل متناهية الصغر لا تحصى.

لا غرابة إذاً أن تستحيل الحبكة وتنتفي الحكاية عندما يكون البطل على هذه الشاكلة. فعلى أيّ فعلٍ سيُقدِم من يعيش في إرجاء وشكّ وتردّد على الدوام. وهذا ما يقتلعه من الزمن المُشترك لسائر البشر، ويعزله في زمنه الداخلي الخاص، البطيء، والذي يكاد أن يكون واقفاً جامداً. هنا تحديداً مكمن الصعوبة التي قد تواجه قارئ روايةٍ لحسن داود: أسلوبه المنسجم تماماً مع حالة أبطاله النفسيّة والوجودية، ومع زمنهم الداخلي الهامد. وهو أسلوب يولّد إحساساً جسديّاً ونفسيّاً بالضيق والتوتّر، شبيهاً برهاب الأماكن المُغلقة. فتسلسل الجُمَل ووتيرتها، يحاكيان وينقلان حسيّاً قلق الشخصيات وارتباكها وحيرتها. أقلّ ما يُقال إن هذا التماهي شبه الكامل بين الشكل والمضمون، قلّ نظيره في الكتابة الروائية اللبنانية. فحين تقرأ حسن داود، تعيش فعلاً في هذا الجحيم البارد، أو الجليدي، الذي هو عقل رواته.

غياب المرجع
لكن ما يُميّز «في أثر غيمة» عن الأعمال السابقة، هو الغيابُ التام لأيّ مرجع أو متكأ اجتماعي أو بيئي لجميع شخصيات الرواية.
سالم ولمى وسائر ركّاب المركب النهري وطاقمه، عائمون على المياه، ولا نعرف عنهم شيئاً يتعدّى ما يفعلونه هنا والآن في الأيام القليلة التي تستغرقها الرحلة. لا أحد منهم يتذكر ولو حادثة واحدة وقعت قبل صعوده على متن المركب السياحي.

هم جميعهم بلا هويّة سابقة، لا يُعَرِّف بهم إلا الحدث الآني الراهن الذي يحصل هنا، على متن المركب. كأنهم في منام، أو كأن سنوات حيواتهم الماضيّة ليست سوى منام تلاشى خلفهم مع مياه النهر، واستفاقوا منه للتو. كائنات آنيّة، على نقيضٍ من شخصيات حسن داود المعهودة التي تمتلك ماضٍ زاخر بالذكريات والخيبات والألم، وتحيا في بيئة اجتماعية وأماكن لها بعض الملامح المحددة والمعروفة، والتي تُملي عليها نمط حياة مُعيّن.

ففي الروايات السابقة، ثمّة رجل دين «لا طريق إلى الجنّة» المُتحدّر من أسرة مشايخ، يعيش في قرية من جنوب لبنان مع زوجته الدميمة وولديه الأصمَّيْن الأبكمَين. وثمّة شاب «غناء البطريق» ذو الذراعَين بالغي الصغر والصدر المُنتفخ، الذي يتأمّل من الشرفة، مع والده العجوز المُتقاعد، مدينة بيروت في طور إعادة إعمارها البطيء بعد انتهاء الحرب الأهليّة. وثمّة الصحافيُّ بطل «نقِّل فؤادَك»، الذي يتسكّع في وسط بيروت بعد إعادة إعمارها، والمهجوس بجبّه الأوّل، لتلك الفتاة التي لم يجرؤ في مراهقته على مُخاطبتها قبل أن تنعطف لتدخل في الطريق المُفضيّة إلى بيتها.

في الرواية الجديدة، فينتفي المكان (الباخرة هي اللامكان بامتياز) ويقتصر الماضي الذي يسبق بداية السرد، على أن سالم كان ربّما متزوجاً في يوم من الأيام. نحن إذاً أمام قطيعة مع المكان والزمن والذكريات، ومع أي زمان خارج زمن الرواية. كأنّ حسن داوود أراد أن يُكثّف أسلوبه الكتابي، أن يختزله كي لا يُبقي إلا على عُنصُرَيه الأساسيَّين: الرغبة الحائرة المُرتبكة، والتأويل اللامتناهي لحركات الجسد وإيماءاته. «في أثر غيمة» ذروة فنّ حسن داود الروائي.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى