سعد القرش يحمل نعش الصحافة ويتقدم جنازتها!
كنت منذ أكثر من ربع قرن من المحظوظين الذين خصهم الكاتب الروائي سعد القرش بقراءة النسخ الأولية من كتبه ورواياته الأولى، ثقة غالية ومتعة لا تعادلها متعة، افتقدتها قليلًا في بعض مما صدر له من كتب وروايات بفعل ارتباكات سفري المتكرر خارج مصر.
وكلما قرأت لسعد، تملكني الشعور بالامتنان، لقلم ولد مبدعًا، وفكر أستوى على عوده قبل الزمان بزمان؛ ومع ذلك ظل السؤال الذي حرت في إجابته طويلًا: لماذا لا يكتب سعد القرش في صفحة الرأي بصحيفة “الأهرام” التي ننتمي لها نحن الاثنين، الرجل يمتلك قلمًا رشيقًا وأسلوبًا لغويًا بديعًا يأسرك من أول حرف وحتى النهاية، أما أفكاره، وقضاياه فهي من النوع المثير للخيال، الجدير بالقراءة والتأمل، لكنه عدو المظاهر والشكليات ولا يجيد ارتداء البدلة ولا يطيق رابطة العنق، ولا تبهره هالة المناصب، إذا يفر منها فرار الغزلان المحبة للحياة والحرية، من الأسود الجائعة الشاردة.
مهارته النادرة في الكتابة، مصحوبة بحس ووعي نقدي ملحوظين، فهو ناقد رصين غير مثقل بأية حسابات ولا مدين بماضي يخجل منه ولا فواتير مؤجلة تقتضي السداد لأحد، بل أنني أشهد أن أحد رؤساء التحرير من موظفي الحكومة أبناء مبارك في زمن الحزب الوطني من معدومي الرؤية، ظن أنه يعاقب سعد يومًا، بنقله تعسفيًا – ودون الرجوع إليه – من القسم الثقافي بالصحيفة التي نعمل بها، إلى قسم الحوادث والقضايا، فما كان من الأخير في ذلك الوقت، إلا أن أخجل الجميع وأولهم رئيس تحريرنا عديم الرؤية، وحصد جوائز نقابة الصحفيين ومنها جائزة عن فرع الحوادث والقضايا التي خلق لها سعد القرش بكتابته البديعة لونًا صحفيًا يحمل بصمة حصرية وعلامة خاصة عليه، لونًا لا يعرفه الكثيرون من الموظفين الذين يحملون لقب صحفيين!
سؤالي عن موقع سعد القرش الكاتب الروائي والناقد وسط كتاب “الأهرام” وليس كتبته، وجدت إجابته أخيرًا، بين دفتي كتابه الصادر قبل أيام عن دار ابن رشد بالقاهرة، بعنوان «قبل تشييع الجنازة.. في وداع مهنة الصحافة»، والذي أهداه لأستاذتنا، أستاذة الأجيال الدارسة للصحافة في مصر والعالم العربي الدكتورة عواطف عبدالرحمن، في إشارة ضمنية من التلميذ النجيب على استيعابه التام لكل دروس الوطنية والمهنية التي طالما حرصت على إيصالها لنا أستاذتنا الكبيرة، وربما أراد سعد أن يضعها في صورة المشهد الإعلامي البائس الذي وصلنا له، رغم كل دروسها ومحاضراتها وكتبها وبحوثها وسنوات عمرها التي حملت فيها أمانة الكلمة وشرفها في الزود عن الوطن والقضايا الوطنية، والنهوض بالمجتمع وتنميته والانتصار للمطحونين المقهورين، والارتقاء بوعي الناس.
كتاب سعد قراءة للمشهد الصحفي والإعلامي المترهل الذي ينتظر خروج الجنازة والتشييع إلى غير رجعة، ويقصد جنازة مهنة الصحافة، وهو حكم قاس رغم ما يحمله من حيثيات تدعمه؛ إذ أرى أن المهنة لن تختفي من الوجود، وأن ما سيختفي هو نتاجها الردئ الهزيل، أيًا كان شكله ورقي مطبوع أو إلكتروني تم تعبئته على عجل وفوق نار حامية سريعة تفسد الطبخة ولا تحسن إلى الطهاة أو الآكلين صحفيين أو قراء أو حتى مسؤولين في مواقع السلطة!
يرى سعد في الكتابة، غواية أكثر بريقا وغنى وإغناء وإشباعا للنفس، وانغماسا في الحياة، واقترابا من بشر محبين للحياة لا من كارهي البشر. يتذكر سعد كلا من علاء الديب، ومحمد روميش فيقول: ” وحدث أنني كنت عضوا في هيئة تحرير مجلة، ثم عرضوا رئاسة التحرير بشروط مهنية لم تتحقق، فانسحبت في الشهر الثالث، صيف 2002″.
ويعاود مواجهة العالم في ترفعه عن المناصب الصحفية بقوله: “في إعلان للمسؤولية عن التعاقد بين القارئ وبيني، كتبت في عدد أغسطس 2014 بمجلة «الهلال» أنني أبدأ تجربة رئاسة تحريرها غير مثقل بأي فاتورة.. لست مدينا لأحد بشيء، إلا للقارئ، هو سيد يأمر في أي وقت، ويطلب كشف حساب، وله أيضا أن يفتش في الدفاتر القديمة، والكتابة فضيحة لا يسهل سترها، تشهد لصاحبها أو عليه، فالنشر لا يبلى، والذنب في الكتابة لا ينسى”.
يأسى سعد لحال الصحافة ويرفق كثيرًا بمن يصفهم في أحاديثنا الخاصة بالمساكين رؤساء التحرير عديمي الرؤية والموهبة منذ عهد مبارك وحتى اليوم فيقول: “حتى في ظل التنظيم الوحيد وإلغاء الأحزاب في عهد عبدالناصر، كان التنافس المهني قائما بين قامات تنسب إليهم المؤسسات والصحف والمجلات؛ لأنهم أكبر من المناصب، يغادرون الكراسي فيزدادون بريقا: محمد حسنين هيكل، أحمد بهاء الدين، كامل زهيري، فتحي غانم، إحسان عبدالقدوس، فخلف من بعدهم محدودو الموهبة، والبعض منهم لا علاقة له بالكتابة، واشتهر أحدهم بأن كتابه أكثر من قرائه.
سعد القرش ناقد ساخر يحمل سكينًا يذبح من يطولهم نقده دون إراقة قطرة دم واحدة، يذكرنا في كتابه بأزمة عارضة بين نظام مبارك والمملكة، وفيها حذف رئيس تحرير كلمة “السعودية”، من خبر عودة شخص مشهور من أداء العمرة بالمملكة، واستبدل “بالسعودية “، بعد عودته من أداء العمرة بإحدى الدول العربية، وكان يكفيه أن يقول من مكة، أو الأراضي الحجازية، أو أن يصمت.
لم يكن سعد القرش يومًا موظفًا، ولن يكون أبدًا، وعلى مدى قرابة ثلاثة عقود تزاملنا فيها في صحيفة الأهرام المسائي إحدى إصدارات مؤسسة الأهرام الصحفية التي كان يمكن أن تصبح يومًا ما اسما كبيرًا في الصحافة المسائية المصرية والعربية، لكن هيهات؛ لم يأبه سعد بخصومات عقابية، ولا سفريات ممنوعة عليه، متاحة للمرضي عنهم حتى أنه مزق بيده أول جواز سفر صدر له في حياته، لأنه لم يستعمله قط، ويبدو أن هذا حال كل المغضوب عليهم.
يلخص كتابه مأساة الصحافة المصرية في تحوّل الصحفيين إلى موظفين رغم وفرة الكفاءات، وفي خلط التحرير بالإعلان، والرأي بالخبر، وعدم إتاحة المعلومات، ونشر أخبار غير موثقة، وعدم الإيمان بالقارئ، والتخلي عن الإنفاق على مواد تحريرية لو أخلصت لها الصحف لاستعادت ثقة الشارع، وحققت الكثير من الاستقلال المادي.
ويعاود أسئلته الكاشفة التي تعري ولا تغطي، رغم طول سنوات عمله في تغطية المشهد الثقافي في مصر والعالم سواء في الأهرام أو مجلة الهلال أو وكالة أنباء رويترز أخصب تجاربه الصحفية قاطبة، يسأل سعد بصيغة عصرية: هل تتوجه الصحف إلى الناس بأوامر الحاكم، وتتفنن في تسويق سياساته، وتسويغ قرارته مهما تكن متعسفة، والمبالغة في الإشادة بحكمته إن وجدت، كما تحجب عنه الحقائق بما فيها نذر الثورة؟ أم تكون صوتا للجماهير ينقل أشواقها ومتاعبها إلى صانع القرار؟
في الخيار الثاني جهد في الاستقصاء والعمل الشاق؛ لأن الصحافة ستكون صوت الشعب الذي يقابل هذه الثقة بأحسن منها، ويتابعها بالشراء والإعلان، فتستغني عن دعم حكومي مهين. ولكن الصحف تميل إلى الخيار الأول؛ فرؤساء التحرير موظفون يتلقون الأوامر، ولا اجتهاد في صياغة الأمر بين صحيفة وأخرى.
ويخلص إلى أن الصحافة المصرية الآن تعنى بأمرين: الإشادة بأعمال الرئاسة، والتخوين الوطني. ويضرب مثالاً ناصعًا من التاريخ حيث صحيفة “الوقائع المصرية” 1828، فمنذ 139 عاما انتشل الإمام محمد عبده جريدة الوقائع من ورطتها المهنية، فوضع لائحة تمنح الجريدة «حق الانتقاد على أي عمل من الأعمال عندما ترى له وجها، بما في ذلك نظارة وزارة الداخلية نفسها التي كانت الجريدة جزءا منها .
يتوقف الكتاب عند إلغاء البرامج التليفزيونية واستبعاد بعض الوجوه ممن كانوا من المرضي عنهم من الإعلاميين والإعلاميات، فيقول: فوجئت المذيعة لميس الحديدي في يوم 1 سبتمبر 2018 بإلغاء برنامجها، وسبقها في ذلك إبراهيم عيسى، وقفت لميس في الاستديو ولسان حالها يقول Game Over وقد لحق بهم آخرون مثل جابر القرموطي الذي تحول للغناء الآن وأصدر أول أعماله الغنائية “مدرستي” على قناته الخاصة على اليوتيوب!
لم يجرؤ أي من هؤلاء – والقائمة تطول والقوس مفتوح لآخرين – على لوم مالك أي قناة، أو انتقاد القبضة الحاكمة. فمن يعرف أن له دورًا محددًا في لعبة، لن يثور على قوانينها، والقوانين مرنة يضعها وينفذها القادر على المنح والمنع، وهذا شأنه في رفع من يشاء، أو تعليق الاعتماد على خدماته، فالزمّار موظف يعاقَب أحيانا، وليس له حق السؤال عن السبب، ربما لأنه يثق بأنه مرفوع مؤقتا من الخدمة، وأنه في اختبار للقدرة على الصمت والتحمّل، تمهيدا لتكليفه بمهام أخرى، عندما يقرر ولي النعم.
وحينما قرر ولي النعم، عادت لميس الحديدي إلى الشاشة مرة أخرى بعد نحو عام من الغياب عن الساحة الإعلامية، عبر تقديم برنامج «القاهرة الآن» على قناة «العربية الحدث» بداية من يوم 20 أكتوبر/تشرين الأول 2019.
أما القارئ المواطن فلا وجود للمواطن في صحف تتجنب بالأمر إثارة قضايا مصيرية. هناك صحف ألغت صفحات الرأي، واحتفظت أخرى بصفحات للرأي منزوعة الروح كانت تنشر، على استحياء، مقالات لبقايا صقور مخصيّة استُخدمت مؤقتا واجهة للزينة، قبل الاستغناء عنها.
يسأل سعد: هل تتوجه الصحف إلى الناس بأوامر الحاكم، وتتفنن في تسويغ قرارته مهما تكن متعسفة، والمبالغة في الإشادة بحكمته إن وجدت، كما تحجب عنه الحقائق بما فيها نذر الثورة؟ أم تكون صوتا للجماهير ينقل أشواقها ومتاعبها إلى صانع القرار؟
بعد طيّ وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية تحت إبط الحكومة، وترديدها خطابا واحدا، بدا هذا الجمع الإكراهي على كلمة ليست سواء. ليصل سعد إلى قناعة تملكته في كل سطور كتابه، مفادها إنه ما لم تحدث معجزة إنقاذ من غيبوبة الموت، فإن نهاية الصحافة محسومة تماما، يلمسها القراء والصحفيون الذين ينتظرون الآن حدوث تغييرات في مناصب قيادية لن تؤثر على الأداء المهني، وإنما تعيد توزيع الأدوار على موظفين آخرين. وهذا الإجماع على أن التغييرات بلا فلسفة ولا معنى يؤكد أن الصحافة يديرها طهاة في رئاسة الجمهورية، كما يطرح سؤالا مهما: إذا كان القضاء سلطة والصحافة سلطة، فلماذا يهون منصب رئاسة التحرير، ويتدنى إلى مستوى وظيفة ساعي البريد؟
كتاب تشييع مهنة الصحافة، ليس سرادق عزاء سابق التحضير، أو نظير شؤم لمهنة تحتضر وتصارع في معركة غير عادلة للبقاء حية، بقدر ما هو صرخات معلنة تخترق حواجز الزمان والمكان، وتقض مضاجع أصحاب الضمائر الحية في مهنة الصحافة، وتعلن إبراء ذمة مؤلفه وغيره الكثير من الموهوبين المفتونين بالكتابة، مما أصحاب مهنة الصحافة من اعتلال وتراجع مخزٍ، جعل البعض يتنصل سرًا وعلنًا من الانتماء للإعلام، ويبدو أن سعد أراد أن يكون صادمًا لقارئه، فقَسم كتابه لمقالات، وهذا في نظري هو الضعف البنائي المنهجي الذي ألمسه في تناوله لفكرة كتابه المحورية، رغم الاتساق والترابط الموضوعي الظاهري، إلا أنني أرى أن جرعة الإفادة كانت ستصبح أضعافًا لو قسم الكتاب لثلاثة أو خمسة فصول كبيرة، برابط موضوعي في الهم المهني للممارسات، وللممارسين الصحفيين، وللمحتوى الذي لم يعد ملكًا، وللسلطة التي أحكمت قبضتها على الصحافة فخنقتها كما خنقت المجال العام، وللقارئ المتهم بالتخلي عن صحافة لا روح فيها ولا اختلاف، في زمن تشابه فيه البقر علينا رغمًا عنا!
صدر للقرش، ست روايات هي «حديث الجنود» 1996، و”باب السفينة” 2002، و”المايسترو” 2019، و”ثلاثية أوزير”: “أول النهار” 2005، “ليل أوزير” 2008، “وشم وحيد” 2011. ولقد نالت «أول النهار» المركز الأول لجائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي (الدورة الأولى 2011)، ورواية “ليل أوزير” جائزة اتحاد كتاب مصر سنة 2009. مثلما صدرت له أيضا كتب قيمة من قبيل: “الثورة الآن.. يوميات من ميدان التحرير” 2012، و” في مديح الأفلام ” 2016، و”سبع سماوات” الفائز بجائزة ابن بطوطة للرحلة المعاصرة سنة 2011.
ميدل إيست أونلاين