سلطة المُدن بديلاً من سلطة البلدان

في عدد آب (أغسطس) 2016 من دوريّة “كورّييه أنترناسيونال” الفرنسية (Courrier international)، تصدّر العنوانان التاليان الغلاف: “المُدن تستحوذ على السلطة” Les Villes prennent le pouvoir؛ و”المناطق الحضرية الكبرى، قوى جديدة محرِّكة للاقتصاد العالمي” Les mégalopoles, nouveaux moteurs de l’économie mondiale؛ فيما احتوى هذا الملفّ عناوين مثل: “المناطق الحضرية الكبرى تستحوذ على السلطة” Les mégalopoles prennent le pouvoir وغيرها من العناوين التي تُشير إلى أنّ “المستقبل هو لسلطة المُدن وليس لسلطة البلدان أو الدّول”؛ فهل إنّ إشعاع المُدن الكبرى، التي تحوي 10 ملايين نسمة أو أكثر، بحسب تصنيف الأُمم المتّحدة للمدن، يعني نهاية الدّول؟ وهل إنّ نهاية الدّول هذه تقود إلى التعاون السلمي الذي بشّرت به العَولمة الجديدة؟

إنّ مصطلح “المُدن الكونيّة” Global Cities، الذي صاغته عالمة الاجتماع “ساسكيا ساسن”، بدلاً من المُدن المليونيّة “Mega Cities” أو “المدن العالمية” World Cities، أو “المدن العملاقة” في إشارة إلى طوكيو ودلهي وشنغهاي ومكسيكو سيتي وساو باولو وغيرها من المُدن، صار يحيل إلى توسّع الاقتصاد الكوني خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وإلى نموّ شبكة من المُدن الكونية التي تزايدت من خلالها “الثروة والعمليات الاقتصادية القومية، مع تكاثر الدوائر الكَونية لمصلحة رأس المال والاستثمار والتجارة. وهذه الشبكة من المدن الكَونية تشكّل نطاق القوّة الذي يشتمل على قدرات مطلوبة لمصلحة العمليات الكَونية للشركات والأسواق. وهي تقطع جزئيّاً الخطّ الفاصل القديم بين الشمال والجنوب” (ساسكيا ساسن، علم اجتماع العولمة، ترجمة علي عبد الرازق جلبي، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2014).

الباحث والخبير الاستراتيجي العالمي، الهنديّ الأصل، باراغ خانا Parag Khanna، توقّع أن تُواصِل “المُدن العملاقة” هيمنتها على الاقتصاد العالمي في عصرنا الحالي الذي أسماه “حضارة الشبكات”؛ تلك الحضارة التي تعتمد، وبشكل جوهريّ، على “ثورة الترابط والتواصل”، لافتاً إلى “وجود 35 مدينة عالمية “عملاقة”، و50 منطقة اقتصادية كبرى مرتبطة بها، تمثّل جميعها وحدات إنتاجية متكاملة وقادرة على التموضع بشكل صحيح في قلب النظام الجديد، متوقّعاً أنْ تُبقي تلك المدن على هيمنتها على اقتصاد العالم خلال العقدَين المقبلَين، مع مواصلة نموّها الديموغرافي بالوتيرة ذاتها، باستثناء مدينة واحدة هي العاصمة اليابانية طوكيو، لتراجع أعداد السكّان فيها” (موقع “الإمارات اليوم” الإلكتروني، 10 / 4/ 2016). وفي مقاله المنشور بعنوان “خرائطُ عالمٍ جديد” Les cartes d’un nouveau monde في عدد “كورّييه أنترناسيونال” الآنف الذكر، شدّد باراغ خانا على أنّ ما يمنَح المُدن أهمّيتها أو وزنها عالميّاً، في عصرنا الحالي، لم يَعُد حجم سكّانها أو أراضيها، وإنّما وزنها الاقتصادي، ومدى قربها من مناطق النموّ، واستقرارها السياسي، فضلاً عن الإغواء الذي تمارسه على المستثمرين الأجانب. ففي الأسواق الناشئة مثل البرازيل وتركيا وروسيا وأندونيسيا، يمثّل كلّ مركزٍ ماليّ أو تجاريّ أساسيّ ثلثَ الناتج الإجمالي المحلّي للبلد على الأقلّ. ففي المملكة المتّحدة، تمثّل لندن نحو نصف الثروة الوطنية، وفي الولايات المتّحدة، تحقّق مدن بوسطن، نيويورك، واشنطن، ولوس أنجلس، التي تؤلِّف بدورها منطقة حضارية كبرى، نحو ثلث الناتج الإجمالي المحلّي، لافتاً إلى أنّه من الآن ولغاية العام 2025، سيكون هناك 40 منطقة حضرية كبرى مثل هذه على الأقلّ.

هل تتحقّق البشارة؟

لكنْ، حين بشِّر مفكّرون وعلماء سياسة واقتصاد واجتماع وغيرهم بنظامٍ عالميّ جديد، غداة انهيار الاتّحاد السوفياتي، وحين توقّع البعض أن يضع هذا النّظام الجديد حدّاً للصراعات الإيديولوجيّة، بسبب التعاون الجديد والسلميّ الذي سينشأ بين البلدان والدّول لكونه سيرتكز على تبادل المصالح المُشترَكة من ضمن سوق عالميّة واحدة، تُحتّم سيادة قِيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرّية وغيرها من المبادئ العالميّة، الإنسانيّة النّزعة، لم يَدُر في خَلَد هؤلاء، وفي خَلَد كثيرين غيرهم، أنّ هذه العولَمة، المُواكِبة لهَيمنة نمط الإنتاج الرأسمالي، يصعب معها عولَمة القيم الإنسانية الداعمة للتعاون المزعوم؛ ذلك أنّ نمط الإنتاج الرأسمالي يسعى أوّلاً، وبشكل أساس، إلى هَيكَلة العالَم داخل نمط إنتاجه، وبالتالي إلى ترتيب الأولويّات الاقتصادية، وشبكة المصالح التي تترتّب عنها، وفق ما تتطلّبه سيرورة الهَيْكَلة هذه. وبحسب باراغ خانا، في مقاله “أفول عصر الأُمم وبداية عصر المدن” L’âge des nations est révolu, celui des cités commence، المنشور بتاريخ 26 / 8 / 2010 في جريدة “لوموند” الفرنسيّة، فإنّ المناطق الحضرية الكبرى أو الميغالوبولات (mégalopoles) المكتظَّة سكّانياً، تشكّل “عوالِم قائمة بذاتها، لكنّها، للآن، لا تزال تُصارع داخل فئة أدنى اقتصادياً من سواها من المناطق الحضرية الكبرى أو الميغالوبولات، مثل لاغوس ومانيلا ومكسيكو”. أي إنّ مثل هذه الميغالوبولات تعكس صراعاً ذا جذور اقتصاديّة فرضته العولمة لربّما كان أكثر توريةً من الصراع الناتج عن “السباق على التسلّح” الذي طَبَع القرن الماضي. فهو صراع قد يكون قائماً بين الميغالوبولات من جهة، وفي داخل كلٍّ منها من جهة ثانية. ولعلّ المثال البسيط الذي أورده خانا عن التفاوتات الطبقيّة داخل “المدن العملاقة” أو “الكونية” لهو خير معبِّر عن ذلك. حيث يورد خانا في مقالته المنشورة في جريدة “لوموند” الآنفة الذكر الآتي: “إنّ ساو باولو هي المدينة التي تشهد، أكثر من دول العالم الأخرى، ارتفاع عدد طائرات الهليكوبتر الخاصّة فيها نسبةً إلى عدد السّكان؛ وهذا ما يُظهِر أنّ بعض الأشخاص فيها جاهزون دائماً لتلافي وجودهم وجهاً لوجه مع بؤس العالم السفلي”.

في هذا الإطار لا بدّ لنا من أن نستعيد مقولة أحد أبرز الباحثين في مجال علم الاجتماع الحضري، مانويل كاستيللزManuel Castells، التي تُفيد بأنّ “تنظيم المجال لا يخضع للمصادفة، وأنّه يعكس بالضرورة حتّميات التنظيم الاجتماعي في مرحلة تاريخية معيّنة، ويعبّر بشكل أو آخر عن طبيعة النظام الاجتماعي والعلاقة بين مكوّناته الطبقية”. وبالتالي، ولئن كانت ظاهرة “عصر المُدن الكونيّة” والميغالوبولات ظاهرة موضوعيّة وقائمة، وأنّها جاءت كنتيجة حتميّة للعَولمة الاقتصادية، فإنّ الأمر لا يستدعي الاستنتاج الآلي أنّ علاقات التعاون هي التي ستسود من الآن فصاعداً، بحجّة أنّ كثافة التواصل بين هذه المُدن والمناطق الحضرية المركزيّة أفضت إلى “أنساق حضريّة عابِرة للقوميّات” تعكس الانخراط الإيجابي في العولمة، على الصُّعد كافّة.

أمّا مقولة “نهاية الدّولة” وقوّتها العسكرية لمصلحة المُدن وقوّة اقتصاداتها مثلاً، فهي مقولة نظريّة تُسهم في توصيف واقع النّظام الدّولي الجديد، توصيفاً أوّلياً ليس إلّا. فالخَصْخَصة، وتحرير التجارة وغيرها، هي من بين المصطلحات التي باتت تعبِّر عن انسحاب الدّولة من عملية التنظيم الاقتصادي لمصلحة الانخراط “الإيجابي” في العولمة الاقتصادية. هذا في الوقت الذي تعني فيه مقولة “نهاية الدّولة”، وفي عمقها، وبحسب المقاربة اللمّاحَة لعالِمة الاجتماع ساسكيا ساسن، “أنّ الدّول لم تعد تمثّل الفاعل الوحيد أو أحد الفاعلين الأكثر استراتيجية وأهمّية، في ظلّ هذا النظام المؤسّسي الجديد”، وأنّها تعبير عن تلك الآلية الجديدة لاشتغال العولمة الاقتصادية، التي أفضت – وتفضي – إلى دَور جديد للمُدن يخضع لخدمة العَولمة الاقتصادية ومصالحها، والذي يتمّ إغفاله بقدر ما يتمّ إغفال “الطرق التي تشارك بواسطتها الدّولة في إقامة أطر جديدة حدث من خلالها تعزيز العولمة” (ساسكيا ساسن، علم اجتماع العولمة). وقد أثبتت العقود الثلاثة الماضية، وما رافقها من ارتفاعٍ في وتائر التفكّك والأزمات والنزاعات والحروب، ولاسيّما في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أنّ أجزاء كثيرة من هذه المُدن الكونيّة والمناطق الحضارية الكبرى تغرق في الفقر وتعاني من بنى تحتية رثّة، وذلك خدمةً للمراكز الحيويّة فيها، بوصفها – أي هذه المُدن، شبكات عابرة للقوميّات، وظيفتها حماية تدفّق رؤوس الأموال والأعمال والبضائع والمواد الخامّ وغيرها من العناصر اللازمة لاستمرار نموّ رأس المال.

على هذا المستوى يغدو التعاون الحقيقي، وغير الشعاراتي أو الإيديولوجي، ضرورة تقتضيها الجغرافيا الجديدة للقوى الكبرى، وهو ما دفع بالكثيرين إلى التحذير من تغوُّل العالَم. ولربّما لهذه الأسباب، وفي مقدّمة كتابه “العالم الثاني السلطة والسطوة في النّظام العالمي الجديد” (الصادر بطبعته العربية عام 2009 عن مؤسّسة محمد بن راشد آل مكتوم وناشرون)، كتب باراغ خانا يقول: “إنْ لم نَجِد أرضاً مشتركة في قلوبنا وعقولنا للتعايش، فليس هناك على الأرض من شيء يمكنه إنقاذنا”.

نشرة أفق (تصدر عن مؤسّسة الفكر العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى