سلمان رشدي ينتصر لابن رشد بالسرد الغرائبي
لا يمكن إنكار القدرات الروائية الكبيرة التي يتحلّى بها الكاتب الهندي البريطاني سلمان رشدي، مهما تضاربت الآراء حول عمله «آيات شيطانية» (1988). قدرات تجلّت منذ روايته الثانية «أطفال منتصف الليل» (1981) التي حصدت جائزة «بوكر برايز» البريطانية العريقة، ثم اعتُبرت أفضل عمل روائي نال هذه الجائزة خلال العقود الأربعة الأخيرة.
روايته الجديدة «عامان وثمانية أشهر وثماني وعشرون ليلة» التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار «أكت سود» الباريسية، بعد فترة قصيرة من صدورها عن دار «راندوم هاوس» النيويوركية، هي عبارة عن حكاية خرافية تسائل زمننا الراهن على ضوء التاريخ والأسطورة، وتنتصر لقوى المخيلة والإبداع الخيّرة في معركتها ضد قوى الشر.
وسواء في مضمونها السياسي أو بأسلوب كتابتها الطريف أو بعملية سردها الغنية بالاستطرادات والأحلام والعناصر الخيالية، تندرج هذه الرواية في سياق معظم روايات رشدي السابقة. أما جديدها فيكمن في موضوعها المثير الذي يضع الكاتب إطاره منذ الصفحات الأولى عبر تسليطه الضوء على المنافسة الشهيرة بين الفيلسوف الإيراني الغزالي المناهض للفلاسفة، والفيلسوف العربي ابن رشد الذي جاء بعده وقاد حملة لإنقاذ الفلاسفة من سيف الـ «بدعة» الذي سلّطه الأول على رقابهم.
في المشهد الأول من الرواية، نرى ابن رشد وقد نفي من الأندلس لردّه على كتاب الغزالي «تهافت الفلاسفة» في كتابه الشهير «تهافُت التهافت» الذي سعى فيه إلى التوفيق بين العقل والإيمان. ولمواساة نفسه يرتمي في أحضان الشابة دنيا التي لن يدري سوى لاحقاً بأنها ليست بشرية بل قادمة من عالمٍ آخر، بيرستان، حيث يعيش الجنّ. ابنة الملك شاهبال الذي يحكم هذا العالم انطلاقاً من جبل قاف، تغتنم دنيا تقارباً دورياً بين عالمها وعالمنا لولوج هذا الأخير، مدفوعةً في مغامرتها الأرضية بحبّها للبشر وأيضاً برغبتها في الابتعاد عن والدها الذي كان يفضّل أن يُرزق ابناً بدلاً منها، وبقي خائباً وحزيناً حتى بعدما تمكنت ابنته من فرض نفسها كأقوى جنّية في المملكة.
ومن ابن رشد الذي ستربطه بدنيا علاقة حب قوية وجميلة، تُنجِب هذه الأخيرة عشرات الأطفال الذين لا يميّزهم عن سائر أطفال البشر سوى انعدام الرَوْم (أو الشحمة) في آذانهم. ولكن لن يلبث ابن رشد أن يضع حداً لهذه العلاقة حين يستدعيه أمير قرطبة مجدداً إلى بلاطه ويلغي قرار نفيه الذي دام عامين وثمانية أشهر وثمانية وعشرين يوماً، فتبقى دنيا وحيدةً بعض الوقت على الأرض قبل أن تعود إلى عالمها.
ويجب انتظار ثمانية قرون كي تنفتح الفجوة مجدداً بين عالم الجن وعالمنا، فيهب إعصارٌ رهيب ومدمّر في نيويورك تتبعه أحداثٌ غريبة في مختلف أنحاء المعمورة يقف خلفها خمسة عفاريت اغتنمت فرصة انفتاح الفجوة المذكورة للمجيء إلى عالمنا من أجل تدمير الحضارة البشرية عبر نشر التطرّف والفساد والإرهاب والفوضى. والسبب؟ اعتبارها أن البشر لا يستحقون بأفعالهم العالم الرائع الذي يعيشون فيه، ما يدفعها إلى إثارة ظواهر خارقة مختلفة وغزيرة يقف البشر أمامها عاجزين لأن «حواسهم كانت قد ضعفت إثر تعرّضهم للتفاهة يومياً، فلم يعودوا قادرين على تقبّل فكرة دخولهم زمناً جديداً مليئاً بالغرائب».
وثمة سبب آخر لسلوك هذه العفاريت: الفيلسوف الغزالي بالذات الذي كان قد حرّر من قمقمٍ العفريت الأقوى من بينها شرط زرعه الخوف في نفوس البشر، فالغزالي كان مقتنعاً بأن الخوف يقرّب الناس من البارئ ويعزز إيمانهم.
وكي لا ينجح العفاريت الخمسة ومساعدوهم في مشروعهم الخطير، تعود دنيا إلى عالمنا لمحاربة الشر المسلّط عليه وتجنيب البشر من السقوط نهائياً في ظلماته، مدفوعةً أيضاً بتجرّؤ هؤلاء العفاريت على تسميم والدها وقتله. وللنجاح في مهمتها، تبدأ أولاً بالبحث عن ذُرّيتها لإيقاظ الجانب الجنّي فيها، قبل أن تندلع الحرب بين الطرفين وتدوم عامين وثمانية أشهر وثماني وعشرين ليلة، أي ألف ليلة وليلة تحديداً.
باختصار، إنها قصة صراع بين العقلانية والظلامية، أو بين الحب والكراهية، تلك التي نقرأها في رواية رشدي الجديدة التي يلجأ فيها مرةً أخرى إلى أسلوب الواقعية السحرية لسردها. أسلوب لا يعني إطلاقاً رفض الواقع، بل يبيّن كيف ينبثق السحر من الواقع بالذات. ولأن الكاتب يعشق الحكايات الشعبية الخارقة الفارسية والهندية، نراه يغرف من خيال هذه الحكايات لنقد عالمنا المعاصر الذي يعاني من الإرهاب والتطرّف الديني والاحتباس الحراري، ومن فقدان الناس نقاط استدلالهم، مستعيناً هذه المرة بجنّيات وعفاريت مستقاة مباشرةً من حكايات ألف ليلة وليلة.
ولكن هل أن البشر في حاجة إلى كائنات خرافية كي ينقسموا ويتقاتلوا؟ الجواب البديهي عن هذا السؤال يجعل القارئ يفهم بسرعة أن هذه الكائنات ليست سوى استعارات للبشر أنفسهم، أو لما في داخلهم، وهو ما يشير إليه الكاتب بوضوح في نهاية روايته، وبالتالي ما يعكس نظرته المتشائمة للطبيعة البشرية التي يسخر منها على طول نصّه بفكاهة عالية. كما لو أنه لم يعد يتبقى سوى الضحك في زمنٍ يمكن للشر فيه أن يطفح في أي لحظة. الضحك، ولكن أيضاً المعرفة والإبداع القادرين على هزم الظلامية.
ولا يفوت قارئ هذه الرواية جانب السيرة الذاتية فيها، إذ تذهب بنا مراراً إلى الهند حيث ولد رشدي وترعرع، وإلى نيويورك حيث استقرّ منذ بضع سنوات، قبل أن تنتهي أحداثها الغزيرة عند نهاية الألفية الثالثة في المدينة نفسها حيث يصوّر الكاتب عالماً حُسِمت فيه المواجهة بين العقل والإيمان لمصلحة الأول، ولكن ليس من دون أن يعبّر عن حنين لعالمٍ يسكنه الجنّ وكائنات خارقة، وعن رمادية عالمٍ لا مكان فيه للنزوات والتخيّلات.
وإذ يتعذّر هنا التوقّف عند مختلف مصادر غنى هذه الرواية، نشير أخيراً إلى بنيتها المتينة، على رغم حبكتها المعقّدة، وإلى أسلوبها الرائع الذي يتراوح، وفقاً للضرورة، بين الملحمي والفكاهي، وبين الأسطوري والفلسفي أو السياسي. أسلوبٌ يعزز من قوة السرد الخيالي فيها ويحوّل نصّها إلى شهادة فريدة على قدرة الحكاية الخارقة على تسيير حِكَمٍ وتعاليم فلسفية تسدّ عطشنا لمعنى ممكن داخل السديم، وفي الوقت ذاته، تمنحنا الشجاعة لمواجهة هذا السديم كواقعٍ مفترض لوضعنا البشري.
صحيفة الحياة اللندنية