سلوى بكر.. الكتابة والمعيار
في مراحل تحولات الأمم والشعوب تتبدل وجوه، وتسقط حواجز، وتفقد شعارات مأثورة لمعانها، وتُصاب عقول النُخب بحالات دوار. تخفت القيم وتتدثر الحقائق بأقنعة عدة، ويفزع النابهون والمثقفون ناحية الأدب سعيا نحو تفسيرات وإجابات مُقنعة لتساؤلات عصيّة على الإدراك. يعيدون استنشاق عطر الإبداع، يتلذّذون بمذاق الكتابة، يذوبون مع كل حرف، ويتيهون في المعاني بحثا عن الوجود الإنساني ودعما لقضايا الإنسان. الأديب الحق هو ذلك الموجوع بعذابات الناس، المسكون بهمومهم، الحريص على التعاطي مع الغير، والمجبول على الاهتمام بالآخر والتعبير عنه.
سلوى بكر الأديبة المصرية واحدة من هؤلاء. تكتب للإنسان دون تمييز، لا يُوجّهها لونه، أو جنسه، أو عقيدته، تتفاعل معه، تقرأ محنه، تتبع آلامه، وتُعبّر عنه بحكايات خالدة. يمكن القول إنها مشروع إنساني قبل أن تكون مشروعا أدبيا. وهي من ذلك النوع من الأدباء الغيورين. عيناها على الآخر دائما، وسواء في القصة أو الرواية أو المسرحية، فهي صاحبة تجارب مختلفة، ولغة أخاذة، وسلسة، وغير مركبة.
سلوى بكر من الذين يرون التاريخ يتكرر بظروفه ووقائعه، لكن بشخوص آخرين، لذا تستدعي كثيرا التاريخ لتُسقط على الحاضر فكرة ما، تستنهض بها الأدمغة لتعيد فيها التفكير والتأمل وتثير قرون الاستشعار تجاه مظالم الإنسان على مر عصوره.
تخرجت سلوى بكر في كلية التجارة جامعة عين شمس في القاهرة، سنة 1972، وعملت مفتشة تموين، غير أنها بدأت مشروعها الأدبي، وأثقلته بالحصول على ليسانس النقد المسرحي عام 1976 وأثارت انتباه المجتمع الثقافي بمجموعتها القصصية الأولى “حكاية بسيطة” سنة 1979، وأكدت تألقها بالمجموعة التالية “رواية عطية” الصادرة سنة 1984. ثم نشرت الأديبة روايتها الأولى “العربة الذهبية لا تصعد إلى السماء” عام 1991، ومثلت مرحلة تطور فني واضح في مسيرتها الأدبية، وترجمت إلى 17 لغة مختلفة، وتوالت مجموعاتها القصصية لتصدر “وصف البلبل”، “أرانب”، “إيقاعات متعاكسة”. ثم فاجأت قرّاءها عام 1998 برواية “البشموري” التي أثارت ضجة كبيرة باعتبارها أول عمل يتناول ثورة المصريين ضد الحكم العربي – الإسلامي في القرن العاشر الميلادي. كما صدرت للأديبة روايات “سواقي الوقت”، و”كوكي سودان كباشي”، و”أدماتيوس الألماسي”، و”الصفصاف والآس”، ومسرحية “حلم السنين”.
وترجمت معظم أعمال الأديبة إلى الإنكليزية والفرنسية والإسبانية والبولندية والألمانية والكورية والتركية وغيرها. وحصلت سلوى بكر سنة 1993 على جائزة دويتشه فيله في الآداب. وتشرف الأديبة على سلسلة التراث الحضاري بالهيئة العامة للكتاب المصرية، وهي أستاذ زائر في الجامعة الأميركية بالقاهرة.
مجلة “الجديد” التقت الأديبة في منزلها بحي المقطم بالعاصمة المصرية، على مدى ثلاث ساعات في محاولة للولوج إلى عالمها الإبداعي السحري، والتفتيش في ذهنها بحثا عن رؤى وتصورات وإجابات لأسئلة تشغل الأدباء والمثقفين العرب في ظل عواصف فكرية وتحولات سياسية تجتاح العالم العربي كل يوم.
الجديد: كتبت من قبل أن “الكتابة هي التي تجعل للحياة معنى، هي أجمل ما فيها”. لكن أوضاع الكتّاب في العالم العربي، ليست على ما يرام. فبعض الكتّاب مُضطهدون والبعض الآخر مُهددون، وهناك من يواجهون ظروفا بائسة في ظل موجات التخوين والتكفير والتشكيك دائما من قبل السلطات والنخب والمجتمعات. كيف تبقى رغم ذلك الكتابة هي أجمل شيء؟
سلوى بكر: بالطبع تبقى كذلك، تبقى حلا وأملا وتحديا لكل ذلك. والكتابة الأدبية تحديدا في حالة ازدهار، لأنها أصبحت وسيلة تعبيرية هامة جدا في لحظة يعاني فيها العالم العربي كله من مأزق تعبيري. والسبب في ذلك أنه لا توجد وسائط سياسية حقيقية، كما أن الإعلام أصبح أداة تزييف للحقائق مع استمرار معاناة الشعوب، ما دفع العالم العربي كله إلى التوجه نحو الأدب ونحو فن الرواية تحديدا. وهذا ربما يفسر ازدحام سوق الكتب بالروايات وازدياد أعداد دور النشر.
وكل هذه الأمور تجليات مأزق التعبير، لأن الكثيرين لا يستطيعون التعبير عن أفكارهم بشكل مباشر وحقيقي، رغم تطور وسائل التكنولوجيا وفتح مجالات جديدة بواسطة وسائل التواصل الحديثة، لكن الكتابة الأدبية في تصوري تمنحنا أفقا أوسع للتعبير عن الذات وعن الأفكار وعن الأسئلة.
القيمة والمعيار
الجديد: لكن هل هذا الازدحام يحمل قيمة إنسانية وأدبية حقيقية أم لا؟
سلوى بكر: المشكلة هنا تكمن في سؤال مهمّ مفاده إن كانت الكتابة الأدبية في العالم العربي تستند على معايير حقيقية للقيمة أم لا؟ هذا هو المأزق. ذلك يدفعنا إلى سؤال آخر هو: ما هي مصادر القيمة في الكتابة الأدبية؟ وفي تصوري، فإن هناك التباسا في تلك القيمة بسبب اختلاط سلطات المال والنفوذ والعلاقات الشخصية بالكتابة الأدبية. وهنا أقول إن الإعلام في العالم العربي يصنع كتابا كبارا وهم ليسوا بكبار. لقد أدى تعدد السلطات إلى اختلاط معايير القيمة الإبداعية وبالتالي فإنك لا تستطيع أن تعرف الغث من الثمين. لكن هذه المشكلة تمتد على كافة نواحي حياتنا الاجتماعية والثقافية، فليس كل ما يلمع ذا قيمة.
الجوائز والمصداقية
الجديد: هل ينسحب الأمر على ظاهرة الجوائز الثقافية الموجودة في العالم العربي؟
سلوى بكر: ظاهرة الجوائز الأدبية في العالم العربي تشوبها شوائب عديدة وأتصوّر أنها تتأثر بالعلاقات الشخصية. إن الثقافة في بلادنا تواجه أزمة واضحة لأنه إذا كان عدد المواطنين في العالم العربي يفوق الـ400 مليون شخص، فنظريا لدينا سوق ضخمة للثقافة، لكن مع الأسف عمليا نحن في عالم نصف أمّيّ، نصف متعلم، وهناك إحصائية حديثة تقول إن نصيب الفرد من القراءة في العالم العربي لا يتجاوز في العام ربع صفحة.
هنا فإن النقاد الذين يقودون المجتمع الثقافي يكتبون وهم يعرفون أن أحدا لن يحاسبهم أو يراجعهم على ما يقولون. وهؤلاء للأسف هُم الذين يوجهون الجوائز الإقليمية التي قد تشذ في بعض الأحيان وتختار أحدا يستحق التكريم، لكن في العموم فإن العلاقات الشخصية تحكم الحركة النقدية بشكل كبير، بخلاف ما كان سائدا في الستينات والسبعينات عندما كان لدينا العديد من النقاد الذين يقدمون الآراء والتصورات دون قيود أو حسابات أو مجاملات مثل حامد النساج وعلي الراعي وإبراهيم فتحي.
إنني الآن أقرأ الكثير من الأعمال على ضوء ما يكتب عنها من نقد حتى من باب الفضول وعندما أقرأ أصاب بالصدمة. لذا لم تعد للكتابة مصداقية في العالم العربي نظرا لاختلاط المعايير القيمية بالأدب.
القارئ هو المعيار
الجديد: متى يشعر الكاتب بالتحقق، وإلى متى يظل الكاتب يكتب، وهل هناك سن معين للاعتزال؟
سلوى بكر: بالنسبة إليّ أنا أتحقق عندما ألتقي إنسانا لا يعرفني ويقول لي إن عملا ما من أعمالي أثّر فيه، واعتبر أن هذا هو المعيار الأساسي في تحقيق ذاتي. أتذكر ذات يوم كنت مع الأديب المصري الراحل بهاء طاهر في معرض باليرمو بإيطاليا وكان مرافقا لنا مترجم إيطالي يتحدث العربية ويعمل في صقلية في أقسام الشرطة ويدعى ألدو نوقيسيه وأعطيته رواية قصيرة لي اسمها “أرانب” وبعد عدة شهور بعث لي خطابا يشكرني بشدة، حيث شعر أنه شبيه ببطل الرواية، وبالفعل قرر ترجمة الرواية إلى اللغة الإيطالية.
ولي عمل اسمه “وصف البلبل” وأذكر ذات يوم أنني التقيت مثقفا مغربيا وأخبرني أنه كان يمرّ بأزمة عاطفية ونسخ خطابا من العمل وقدمه لحبيبته لتنتهي الأزمة. هنا أشعر بأهمية الكتابة، وأعتقد أنها تصلح أن تكون فاعلا رئيسيا في الحياة. إن الكاتب الفرنسي جان كوكتو كان يقول “آه لو عرف الإنسان قيمة الشعر”. وأعتقد أن هذا يمكن أن يمتد إلى كافة أشكال الإبداع لنقول آه لو عرف الناس قيمة الإبداع. إنه يكون حقيقيا عندما يؤثّر في الناس، ويستطيع أن يمسك بهمومهم وآمالهم وحيواتهم.
لكن متى يعتزل الكاتب؟ هذا سؤال صعب جدا، وأظن أن الكاتب الصادق الذي لديه عبارة يريد أن يقولها لهذا العالم يصمت عندما لا يجد أثرا من قولها.
تجربة الاعتقال
الجديد: إلى أي مدى أثرت تجربة الاعتقال السياسي سنة 1989 في إبداعك، وهل تؤمنين بضرورة أن تكون للأديب مواقف سياسية؟
سلوى بكر: تأثير تجربة السجن لديّ كانت في رواية “العربة الذهبية” التي ترجمت إلى 17 لغة، وهي رواية تتناول عالم النساء في الجرائم الجنائية وليست السياسية. وفترة السجن بالنسبة إليّ كانت قصيرة جدا ولم تكن فيها بطولة، كل ما هنالك أن الأجهزة الأمنية كانت لديها دفاتر قديمة للنشطاء، وتبحث عن متهمين في قضية إضراب عمالي ووضعتني ضمن قائمة المتهمين. وبالنسبة إليّ أتاحت لي التجربة الالتقاء بالنساء السجينات والتعرف على دوافع المرأة للجريمة. أذكر حالات قاسية عايشتها، منها امرأة عجوز دخلت السجن بدلا من ابنها الحائز نجمة الشرف العسكرية في حرب أكتوبر والمتهم بتجارة الحشيش، ودخلت مكانه لأنها تراه شابا صغيرا مازال المستقبل أمامه بينما هي امرأة في خريف العمر.
وأتذكر فتاة التقيتها سألتني، وهي “نشالة” (سارقة) عن رأيي في تغيير مهنتها بعد الخروج للعمل في الدعارة، لأنها أسهل وأقل خطرا. إن هذه النماذج تثير لدى المبدع أسئلة عديدة عما أوصلهم إلى هذه الحال، ومن المستحيل أن تخوض تجربة السجن وتكتفي بكتابة نفسك وما جرى لك دون أن تلتفت إلى هؤلاء. أما فكرة المواقف السياسي للمبدع فهي فكرة أصيلة لا تعني بالضرورة الانضمام لحزب سياسي أو السير في مظاهرة أو الهتاف بسقوط شخص وحياة آخر، لكن الإبداع بشكل عام منحاز للحق وللعدل ولكل ما هو إنسان، وقضايا الإنسان بشكل أو بآخر فيها جانب سياسي.
الرواية الصادمة
الجديد: قدمت في رواية “البشموري” تصورا لعسف النموذج المروّج له من قبل التيارات الدينية للخلافة الإسلامية للبسطاء في البلاد التي تم غزوها ومنها مصر.. كيف واتتك الجرأة لفضح النموذج اليوتيوبي الخادع وكيف كانت ردود أفعال المتطرفين تجاهك؟
سلوى بكر: في تصوري أن “البشموري” كرواية كانت صادمة لكل الأطراف. والأكثر صدمة هم العامة من المسلمين والمسيحيين، لأنها قدمت عالما مسيحيا لأول مرة عن قرب وتركيز ودون مواءمات أو حسابات. واندهش الأقباط في مصر، وكذلك المسلمون. رغم أن العمل لم يكن يتناول الدين وإنما المجتمع.
كانت الرواية عن ثورة اجتماعية حدثت في مصر وقام بها الفلاحون الذين كان يطلق عليهم “القبط” ضد الحكم العربي، ووقائع الرواية مستمدة من تاريخ كتبه مؤرخون عرب وأقباط. لكن القضية أن تلك الثورة كان يتم التعامل معها تاريخيا باعتبارها أمرا هامشيا وما فعلته الرواية أنها وضعت الحكاية في بؤرة الضوء.
في هذه الرواية هناك بطلان، أحدهما شماس مسيحي، وآخر خادم للكنيسة، وفي النهاية أسلم الخادم لأنه يمثل النموذج الشعبي الذي يتعامل مع الدين كطقس، لا كفكر وإيمان، لكن الشماس الذي يمثل نموذجا للمثقف صاحب العقيدة والفكر لم يسلم، وعندما قرأ الناس الرواية غضب المسلمون وغضب الأقباط على السواء.
الرواية التاريخية
الجديد: كتبت الكثير من الأعمال التاريخية مثل “البشموري” و”أدماتيوس الألماسي” وغيرهما.. هل تعتقدين أن هناك شروطا معينة لكتابة مثل هذه النوع من الأعمال، وإلى أيّ مدى يمكن للكاتب أن يخالف روايات المؤرخين؟
سلوى بكر: لا شروط ولا غيرها من الأشياء، لكن هناك بحث طويل وشاق، وعليك أن تتجهز جيدا بقراءة روايات المؤرخين باختلاف توجهاتهم للوصول إلى إجابات حقيقية.
الجديد: هل أنت تتفقين مع مصطلح الرواية التاريخية، أم ممن يرفضون تصنيف الرواية طبقا لزمانها، وهل يمكن إطلاق الوصف على كتاباتك؟
سلوى بكر: ربما يصلح الوصف لدى البعض، لكن أنا لا أكتب رواية تاريخية. أنا أكتب رواية تتساءل عن التاريخ، وتعيد طرح أسئلته، مثل دخول العرب إلى مصر، هل كان ذلك غزوا أم فتحا؟ هنا يجب أن نقدم وقائع التاريخ لنعيد طرح الأسئلة، والمشكلة أن الأسئلة تطرح دائما بمرجعيات مسبقة فأنت لو كنت متشددا دينيا ستقول إن دخول العرب كان فتحا لمصر، أما لو كنت متعصبا للقومية الخاصة بك فستعتبر الأمر استعمارا، لكننا لو استطعنا أن نطرح الأمر بتجرد فإننا سنقدم شيئا أفضل، وهذا ما يمكن أن تقدمه الرواية.
الجديد: يتساءل كثيرون لماذا يعود الكاتب إلى تاريخ مضى ليصوغه إبداعيا، لماذا لا يحاكي الواقع والحاضر؟
سلوى بكر: ببساطة لأن التاريخ دائما يتكرر، وقضايا الإنسان وهمومه تتوالى بشخوص مغايرين. ومعروف أن اللغة مسألة مهمة جدا وضرورية. ولا بد أن تكون لغة كل شخصية ملائمة لوضعها الاجتماعي والثقافي. واستجماع اللغة يتطلب عودة إلى مفردات العصر حتى يتسنى إقناع القارئ بالزمن المحكي عنه، لأن هناك اختلافات وكلمات مندثرة، بل لأن لكل شخص القاموس الخاص به.
واللغة بالطبع تتطور بشكل كبير عبر الزمن. في الماضي القريب كان المطربون في مصر يغنون “إيش دا بقى” (ما هذا) والآن لا يقال في مصر “إيش”. وبين الشباب نجد مصطلحات لم تكن مستخدمة في جيلي. وهنا فإن اللغة يجب توظيفها التوظيف الأمثل. لو أحضرت لك شخصا جاهلا ولم يتعلم ويقول لي في رواية “أعتقد..” من حقي أن أعترض وأسأل كيف يقول “أعتقد”. إن أكثر ما يؤلمني في أعمال روائيين معاصرين أن أجد شخصيات عديدة تتحدث كلها بلغة واحدة دون تمييز أو أجد طفلا صغيرا يتحدث بلغة الكبار. لا بد للغة أن تمثل زمانها، وهذا الأمر يحتاج لجهد من الروائي من خلال قراءة الآداب المعاصرة للزمن والإمساك بمفرداته.
أبطال متمردون
الجديد: لماذا يلاحظ النقاد أن معظم أبطال رواياتك من المتمردين المختلفين عن العامة والمشتبكين مع الواقع، هل التضاد ضرورة إبداعية أم هي محاولة لشد انتباه القارئ وإدهاشه؟
سلوى بكر: بالطبع لا أقصد إثارة انتباه القارئ ودهشته. لكن الحياة مليئة بالتناقضات والكاتب مهمته أن يبحث في هذه التناقضات وعليه أن يقدمها للقارئ كي يتأملها. والشخصية المتمردة في اعتقادي موجودة في الحياة، وفي الغالب لا تتقدم الحياة إلا بها. هناك عبارة للإمام النفّري تقول “إن العلم المستقر هو جهل مستقر”. وكل شيء يتطور بمخالفة الواقع والتمرد عليه. إن علينا طوال الوقت أن نبحث ونكتشف ونسأل حتى نخطو إلى الأمام، لكن أن نصر على الماضوية بدعوى الاستقرار فذلك لا يؤدي إلى شيء. إننا نتزوج بالطريقة ذاتها للزواج منذ ألف سنة، ونفرح بالطريقة ذاتها التي نفرح بها منذ ألف سنة، والعالم يبحث طوال الوقت عن أشكال مختلفة وجديدة للسرور والحزن وكل شيء.
ألوان الكتابة
الجديد: كتبت الرواية والقصة القصيرة والنقد الأدبي، أي لون إبداعيّ هو الأقرب، وهل بالفعل انحسرت القصة القصيرة؟
سلوى بكر: ليس هناك مخطط سابق. كل ما أكتبه قريب من روحي. في بعض الأحيان أكتب قصة قصيرة ثم أجد أن موضوعها من الأفضل أن يصبح رواية، وأحيانا العكس. وأحبّ عمل إلى قلبي لم أكتبه بعد.
ولا أعتقد أن هناك انحسارا عن القصة القصيرة، لكن لا يوجد اهتمام كبير من دور النشر. كما أن فن القصة القصيرة فن صعب جدا أساسه التكثيف. لكنها ستعود للانتعاش لأنها وسيلة أسهل في الوصول إلى الناس عبر صحيفة أو صفحة من صفحات التواصل الاجتماعي. هي أسرع ويمكن لأيّ شخص أن يقرأ القصة في وقت بسيط. إن ما يردّد عن القصة القصيرة في غير محله.
الكيف والنوع
الجديد: هل تعتبرين ازدحام سوق الرواية عربيا ظاهرة إيجابية، وإلى أيّ مدى تأثر سوق الأدب بتطور التكنولوجيا الحديثة؟
سلوى بكر: ازدحام السوق بالروايات ظاهرة إيجابية وسلبية في آن واحد. هي ايجابية لأننا يجب أن ندع ألف زهرة تتفتح. لكنها سلبية أيضا لأنه لا توجد لدينا مقاييس حقيقية للقيمة الفنية، وهنا فإن الخاسر الأول هو المتلقي، أي القارئ الذي قد يضيع وسط هذا الزخم الكبير.
أما بالنسبة إلى أثر التكنولوجيا الحديثة فربما تكون أثّرت في الكم وليس الكيف. لقد ساعد تطور التكنولوجيا على الوصول للمعلومة أسرع لكن ذلك لا يعني بالضرورة المعرفة. وجود المعلومات في حد ذاته مهم لكنه ليس مفيدا للإبداع دون معرفة، والمعرفة هنا هي القدرة على تحليل المعلومات وقراءتها بشكل سليم لطرح أسئلة إنسانية جديدة. المعلومات وحدها لا تصنع مبدعا.
كتابة المرأة
الجديد: هل تعتقدين في وجود تمايز في الإبداع بين الرجل والمرأة، وإلى أيّ مدى أنت راضية عن إبداعات النساء في العالم العربي؟
سلوى بكر: بالطبع هناك تمايز واضح بين الرجل والمرأة في الإبداع. وربما مردّ ذلك إلى اختلاف التجربة الإنسانية في مجتمعاتنا. إن التجربة لدينا مختلفة على أساس مجتمعي، فالمرأة معنية بوظائف الحياة مثل الحمل والإنجاب، والرجل منوط بصناعة العالم، وهو وضع قديم تاريخي والعالم الحديث يتخلص منه الآن شيئا فشيئا لذا سنجد في بعض الأماكن امرأة وزيرة حربية أو سيدة تقود طائرة.
أما لدينا فالأمر مختلف، لذا فإبداع الرجل يختلف بشكل واضح عن إبداع المرأة، وعلى سبيل المثال فإن الرجل عندما يقدم امرأة في عمل ما يركز على جمالها وجسدها ومفاتنها، أما المرأة فقد تحكي عن لطف امرأة أو أناقتها أو أسلوب حديثها وقدرتها على التأثير في من هم أمامها. وأنا أستغرب بشدة من بعض الأديبات اللاتي يكتبن بصوت مغاير ويستعرن عين الرجل في الكتابة. لا أعتقد أن ذلك من الموضوعية. لا بد عندما نقرأ نصا أن نشعر بصدقه. وأنا راضية عن إبداعات المرأة العربية بصورة كبيرة، وبحكم اطّلاعي على كثير من التجارب أقول هناك أديبات أفضل من الرجال.
المرأة تنافس
الجديد: قلت من قبل إن هناك تاريخا مسكوتا عنه للمرأة في العالم العربي.. كيف ترين ونحن في الألفية الثالثة أوضاع المرأة بشكل عام في المجتمعات العربية؟
سلوى بكر: مازالت مهمشة ومنسية وغير ملتفت إليها. في الماضي كانت هناك سيدات عظيمات نسيهنّ التاريخ أو ذكرهن على الهامش رغم عظمة ما قدمنه. لقد كانت هناك شيخات كثيرات في تاريخ العرب تتلمذ علي أيديهن شيوخ كبار مشاهير. والأمر لم يتغير كثيرا رغم أن البعض يحاول الإيحاء بعكس ذلك. مازالت الأدوار التي تتبوأها المرأة قليلة ومستبعدة. وحققت المرأة في العقود الأخيرة كتابة تنافس ما يكتبه الرجل وترقى إن لم يكن تتفوق في بعض الأحيان على كتابات الرجال. والأجيال الجديدة فيها سيدات رائعات. في مصر مثلا هناك، منى الشيمي، سعاد سليمان، وفي سوريا شهلا العجيلي، وفي كل أنحاء العالم العربي هناك كاتبات مميزات بصدق.
ثورات ومؤامرات
الجديد: ككاتبة وسياسية كيف تنظرين إلى انتفاضات الربيع العربي؟ هل فشلت بسبب متانة الدولة العميقة أم إنتهازية التيارات الدينية؟
سلوى بكر: هي ثورات ومؤامرات في نفس الوقت. أيّ انتفاضة يمكن أن تستغل من الداخل والخارج. وهذا ما جرى في انتفاضات الربيع العربي. هل كان هناك غضب تجاه الحكومات القائمة؟ نعم. لكن التيارات الدينية استغلت الموقف. وفي ظني أن مشكلة الثورات أنها لم تقم بخطط وبرامج واضحة ولم تكن لها قيادات حقيقية. وأتصور أن المستقبل يحمل الكثير من الإيجابيات، منها انكشاف التيار الديني الذي كان يطرح ويقدم دائما باعتباره بديلا صالحا للحكم. كما أن وعي الناس بالشأن العام ارتفع كثيرا.
الجديد: تتنوع السير في المكتبات العربية بين الساسة والمسؤولين السابقين وتقل بالنسبة إلى الكتاب والأدباء، برأيك لماذا تقل السير الذاتية للأدباء في عالمنا العربي، ومتى تكتبين سيرتك الذاتية؟
سلوى بكر: هذا أمر طبيعي لأن السير الذاتية تقدم تجارب وشهادات لشخوص تولوا المسؤولية لوقت ما. وأنا لا أحب للأدباء أن يكتبوا سيرهم الذاتية، وشخصيا لن أكتب سيرة ذاتية. وفي تصوري أن معظم السير الذاتية محاولات لرسم بطولات وتجميل للنفس، وليست لتقديم تجارب إنسانية حقيقية. والأديب يجب أن يكون غيريا أكثر منه ذاتويا، ينشغل بالإنسان وأوجاعه ويبحث عن إجابات لتساؤلاته الأزلية.
مجلة الجديد اللندنية